يعتقد الاقتصاديون أن استراتيجية الأجور التي طبقتها الخدمة المدنية هي الخيار الأمثل الذي أعاد توازن الأجور الوظيفية العامة وفق قواسم عادلة وكفل لموظفي الدولة ارتفاعاً كبيراً جداً بالقدرة الشرائية. لكن بمقابل هذا الرأي هناك اعتقاد بأن استراتيجية الأجور أخلت بتوازنات المجتمع بشكل عام وسببت معاناة لشرائح عديدة منه.. فالزيادات الكبيرة في أجور موظفي القطاعات الحكومية لم تقابلها زيادات مماثلة ولو بقدر الحد الأدنى في أجور العاملين لدى القطاع الخاص والميادين الأخرى، في نفس الوقت الذي شهد السوق المحلي زيادات سعرية حادة متأثراً بارتفاع القدرة الشرائية للموظف الحكومي رغم أن بعض هذه الزيادات لم يكن لها ما يبررها. إن آليات التحول إلى استراتيجية الأجور الجديدة اتخذت ضيغة الانتقال السريع على سلم الأجور دونما تدابير حكومية مسبقة تضمن ديناميكية مناسبة لسلم أجور موازٍ للعاملين في القطاعات غير الحكومية تفادياً لحصول فجوة في القدرات الشرائية للمواطنين ينتج عنها تفاقم حالة فقر العمال والفلاحين والكسبة ، بجانب الغالبية العظمى من العاملين في مؤسسات ومكاتب أهلية وكذا المرتبطين بعقود عمل مع جهات التشغيل سواء كانت حكومية أم خاصة. وبالتالي فإن جميع تلك الشرائح تواجه اليوم مشكلات مستعصية كان على صناع القرار توقعها ووضع التدابير المسبقة لها، ومن هذه المشكلات ثبات الأجور مقابل سوق متغير تصاعدياً .. عدم استطاعة أرباب العمل رفع أجورهم طبقاً لحسابات الجدوى.. وانعدام فرص العمل البديلة إذا ما فكروا بالانتقال إلى مؤسسات أخرى .. وعدم وجود تشريعات قانونية تلزم أرباب العمل بحدود دنيا للأجور مبنية على أساس المتغيرات التي طرأت .. ومن ثم أيضاً ضعف الوعي النقابي لدى معظم هذه الشرائح بما يمكنهم من ممارسة الضغوط والدفع بالقطاع الخاص إلى تبني إصلاحات بأجور العاملين لديه. وعلى الرغم من ان بعض مجالات العمل غير الحكومي أحدثت زيادات سعرية في خدماتها أو منتجاتها التي تقدمها ، لكن الغالبية العظمى لم تجد سبيلاً لذلك فقطاع الإعلام غير الحكومي «مثلاً» لم يفلح في ذلك .. والعمال «باليومية» بقيت أجورهم على حالها وأحياناً تتدنى بسبب العرض الفائض جداً على الطلب .. أما شريحة المزارعين فقد طالها ضرر كبير جداً ، حيث ارتفعت أسعار البذور، والأسمدة، والمبيدات والمياه وتكاليف التسويق في الوقت الذي فشلت في رفع قيمة منتجاتها أو مبيعاتها نظراً لبقاء الأسواق اليمنية مفتوحة بشكل كبير على وارد المنتجات الزراعية القادمة من الخارج وبما يحد من أي تطلع لزيادات سعرية كبيرة فضلا عما يعانيه هذا القطاع من عدم تنظيم وغياب الآليات التسويقية وضعف صناعات التعليب والتجفيف وغيرها. قد لا يصدق معالي وزير الخدمة المدنية ثم دولة رئيس الوزراء ان هناك عمالاً بصفة «مؤقت» في مؤسسات حكومية وخاصة على حد سواء يتقاضون ثمانية آلاف ريال مرتباً شهرياَ .. وهناك طباعين بمؤهلات معهد «دبلوم» أو أعلى لا تزيد مرتباتهم عن «12» ألف ريال .. وان متوسط مرتبات موظفي شركات ومؤسسات القطاع الخاص لا يتعدى «15» ألف ريال .. وهناك آلاف العمال اليمنيين تستغل ظروفهم شركات غير يمنية ويعملون لديها بأجور أبخس مما يتخيله عقل إنسان وقد حضرنا قضايا كثيرة من هذا القبيل في إدارة التحكيم بوزارة العمل. لاشك أننا لا نعترض على استراتيجية الأجور، فالجميع متفق عليها، ولكن نلفت الانتباه إلى أن الانتعاش المعيشي الذي كفلته الحكومة لموظفيها بات هناك ضعف أعدادهم يدفعون ثمنه مزيداً من الفقر ، والعوز، والمعاناة.. وهذا الانتعاش بمرتبات الموظفين استقبلته الطبقة الكادحة على هيئة ارتفاع كبير بأسعار المواد الغذائية وبالخدمات العلاجية والعامة ، وبفواتير المياه وحتى بإيجارات البيوت!! ومن هنا تقع على الحكومة مسؤولية إعادة التوازن للمجتمع وإيجاد حلول تكفل للعاملين بقطاعات غير حكومية زيادات مناسبة في الأجور وكذلك حلول للعقود المبرمة بين موظفين وجهات عمل .. علاوة على حماية الأيدي العاملة اليمنية من ابتزاز واستغلال الشركات الأجنبية بوضع حدود دنيا للأجور طبقاً لمصنفات المهنة .. فهؤلاء يجهلون الدفاع عن حقوقهم وهم أمانة بأعناق أهل الوعي وأرباب المسؤولية!!