كثيراً ما نجد الاتهام والمحاربة إما من السياسة أو الدين لكل من يعمل ويفكر بشكل فلسفي حقيقي، وها نحن اليوم نواجه عقماً ذهنياً وضحالة فكرية وتفكير ظلامي ينتشر بين من يسمون أنفسهم خطباء مساجد أو دعاة. وهؤلاء يعيشون حالة عداء ونظرة شك وريبة لكل من يستخدم عقله أو يستند في تفكيره على الرؤية العقلية والتحليل المنطقي، وأصبحت كلمة “فلسفة” كلمة سيئة السمعة، وتواجه بالنفور والضيق من قبل من يشتغلون في الحقل الديني وحتى العامة. وقد لعب بعض الأكاديميين المؤدلجين إلى جانب خطباء الجمعة دوراً كبيراً في تهميش العقل وتسفيه التفكير، وأرسوا جمود الذهن الجمعي. والحقيقة أن غياب الفلسفة قد شارك في تغييبها جهات عديدة منها التربية ومنها ما ذكرناه آنفاً. يبدو أن الجميع قد اتفق على تجريم الفلسفة ومحاربتها، حتى أضحت واحدة من الجرائم التي تلصق بالشخص، فكلما أراد المرء أن يشرح ويحدد مكامن الخطأ، بادره المستمع إليه بالقول: “بدون فلسفة!”.. ونحن نعلم أن الفلسفة لا تزدهر إلا في المجتمعات التي تؤمن بالحوار وحرية الرأي واحترام الآخر، وبما أن واقعنا لا يؤمن بأهمية الحوار، فإنه قد تحول إلى واقع ظلامي يكره التفكير العقلاني المستنير، ويقف ضد الحريات الفكرية. إن التفكير الظلامي يحارب ومعه المدرسة والمسجد، ويوم تؤمن المدرسة ويؤمن المسجد بدور العقل والحرية سنجد ازدهاراً في الأفكار وسينمو التفكير العقلي وكل ذلك سيساعد المجتمع على العبور من حالة التدني والانهيار إلى حالة النمو والصعود والازدهار والتقدم. إن غياب الفلسفة من مناهجنا جعلنا نعيش حالة من الأزمة والانكسار، بل إن القوى المتخلفة والكارهة للفلسفة نجدها تستعمل كل السبل المتاحة وغير المتاحة لوأد أي تفكير عقلاني أو أي حوار عقلي. وكما نعلم فإن الذين يتدينون من أجل المصلحة الشخصية ومن أجل فرض سلطة الدين لحماية هذه المصلحة، فإنهم يخافون من الفلسفة والفلاسفة؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن ذلك سيفضحهم ويكشف زيفهم، لذلك فهم من أشد أعداء الفلسفة؛ لأنها ترهبهم وتفضح تفكيرهم، وهم يريدون أن يضمنوا سلطة الهيمنة التامة على الجماهير. وبنظرة بسيطة لواقع التعليم العام والجامعي يتضح لنا لماذا تجتهد القوى الدينية في الإبقاء على ما هو سائد، ففي التعليم لا وجود للعقل ولا وجود للتفكير والتحليل وإبراز الذات المتلقية ليتحول التلميذ إلى متلقٍ سلبي.. إنه كما يسميه علماء الفيزياء “تعليم الكتلة وليس تعليم الفرد” إنه تعليم قائم على قمع وإسكات وإخراس العقل وقدراته. كم نحن بحاجة إلى تعليم يخاطب العقل والوجدان لكي يصبح للتفكير نتاج في الواقع المعاش، كم نحن بحاجة إلى فلسفة تعمل على نقد الواقع وفضح الأفكار الظلامية وكشف العقم الفكري والأفكار التي تقيد وتدمر الحرية. كم نحن بحاجة إلى دورات تدريبية وتأهيلية تقوم بها وزارة الأوقاف تعمل من خلالها على إرساء قيم الجمال لدى خطباء المساجد، فالجمال في كل صوره وتجلياته جزء أساسي في تكوين النفس البشرية ورقيها، فعندما تفقد النفس البشرية عنصر الجمال يصبح القبح هو العنوان السائد والمهيمن على كل حياتنا. وإنني أضع بين يدي وزير الأوقاف ورئيس جامعة صنعاء ما يجري في جولة الجامعة؛ حيث تنطلق الأصوات المدمرة للسمع والأعصاب، أريد منهما أن يتوقفا للحظة واحدة أمام هذه المحلات التي تنبعث منها هذه الأصوات من الصباح وحتى المساء، أريد منهما أن يتوقفا ليريا أن الدين تحول إلى إزعاج بأصوات لا يمكن أن تكون بشرية، أصوات لا تحتملها أذن. ما يحدث في شارع الجامعة هو دعوة لنبذ الآخر علناً وجهاراً.. فأي جمال في ذلك، وهل الدين في مثل هذه السطحية الكاذبة؟!. إن جمال الدين يتمثل في هدوء وعدم إرباك الناس وإزعاجهم واحترام الآخر وخصوصياته. إن التحجر وعداء العقل هو دليل على قلة التدين.. فمتى ستعالج وزارة الأوقاف عقول خطباء الجوامع، وإلى متى ستظل وزارة التربية والتعليم تنظر إلى هذا التخلف والتدني في مستوى التفكير لدى المتعلمين؟!. لقد آن الأوان لإعطاء الفلسفة حقها، فنحن بحاجة ماسة إلى الفلسفة.. إنها الأمل للإصلاح.. وهي الأمل في كشف التزييف والأوهام التي نعيش فيها. لقد وصل الأمر إلى الجامعة، وسأحاول الكتابة عن ذلك في مطلع الأسبوع القادم عن الكتاب الذي تروج له القوى الظلامية من خلال اللجنة الثقافية في كلية الآداب والذي يحاول العودة بنا إلى ما قبل التاريخ!!.