في كل دول العالم هناك معيار واحد للزمن، غير أنه في العراق يختلف، كونه يفقد قيمته تارة، وتارة أخرى تتضاعف عشرات المرات، طبقاً للظرف والحالة، فالشعوب أحياناً تتفوق على كل الحسابات المعقدة، لقد انهار العراق في سويعات أمام دبابة الاحتلال خلافاً لكل حساباتنا للزمن المتوقع لانهياره..وبعد أقل من عامين من ذلك انهارت ساحة العراق الداخلية على حين غرة أمام الفتنة المذهبية، حتى أيقن الجميع أن الزمن لم تعد له أية حسابات رقمية محددة، وأن الأشياء بدأت أيضاً تفقد قيمتها بدءاً من الإنسان،المكان، السياسة، المذهب، وحتى الأعراف والقوانين..! خلال النصف الثاني من العام المنصرم، وفي أوج مهرجانات المجازر والتشريد، والمفخخات والأحزمة الناسفة، ظهر العراقيون فجأة - كمن قام من الأجداث - وهم عازمون على لعق الجراح، ولملمة الصفوف، وكبح جماح الفتن، والتخريب، والفوضى الديمقراطية الخلاقة .. ومع نهاية العام 2007م كانت شاشات الفضائيات تنقل عودة قوافل المشردين إلى بيوتهم، وحدائق بغداد وهي تعج بالأطفال والنساء والشباب، بعد تلاشي سحب الديناميت والرصاص، وضجيج التفجيرات، وفتاوى التكفير وهدر الدماء..! في حسابات العالم أن العراق قد يحتاج إلى عشرات السنين ليستعيد بعض عافيته، إلاّ أن ذلك التخمين لن يصمد بضع سنين حتى يثبت خطأه.. والسر في ذلك هو أن كل ما حدث جرى في بلد يحتفظ بعمق حضاري عظيم لم يصبه الانهيار، إذ إن الأنظمة والبنى التحتية قابلة للانهيار في أي حين بينما الشعوب تبقى محافظة على مقومات بقائها المتجسدة بتراثها الثقافي والإنساني الذي تستلهم منه الخبرة والإرادة في مواجهة وقهر التحديات التي تعترض مسيرتها. الرهان على الانهيار الحضاري للعراق صاحب حقباً عديدة من تاريخه، وكانت حرب الخليج الثانية أشرسها كونها امتدت أعواماً طويلة من الحصار القاهر، والتآمر المستمر على كل شيء في العراق، ثم تم تتويجه بالاحتلال ونهب المتاحف، وحرق المكتبات والجامعات ومختلف دور التوثيق.. ثم ليصل إلى الفتن المذهبية والاثنية. إن قدرة العراقيين على إعادة إعمار وطنهم بعد الحرب العالمية التي دمرت بناه المؤسسية كانت أشبه بمعجزة تاريخية لم يسبق لأحد من قبلهم الإتيان بمثلها .. وطالما أن الشعب نفسه باقٍ فإن فرصة إعادة العراق إلى حالته الجيدة ما زالت متاحة، وبأرقام زمنية قياسية إذا ما استطاعت استعادة المناخات الآمنة والمستقرة للدولة. لعل ما يهمنا هنا هو اكتشاف سر بقاء الدول الكامن في شعوبها المسلحة بهويتها الوطنية وعقيدتها الدينية، وموروثها الثقافي الذي يحدد أبعاد الكثير جداً من ممارسات أبنائها.. وبالتالي فإن حالة الاخفاق التي تمر بها بعض الدول، وتجرها إلى حقب من الاتكالية لا تعني إطلاقاً أنها النهاية التي تنمي اليأس لدى أبنائها، فطالما وهذه الشعوب ثرية بتجاربها التاريخية الحضارية، وأدوارها الإنسانية فإنها بلا شك تمتلك فرص التعويض! ربما علينا اليوم في اليمن أن نستلهم ذلك المعنى، ونتعلم منه كيف نصنع شعباً مقاوماً للانتكاسات والتحديات القاهرة.. وكيف نبني ثقافة تقدم الوطن على النفس والأهل والبيت والمال والقبيلة.. فإن مثل هذا السعي مازال غائباً عن أنشطتنا .. ولا يتناسب إطلاقاً مع حجم التحديات المحدقة بنا.