كم من الأهوال مكتوب على هذا الشعب المناضل أن يعيشها وهو يصارع أمواج الدم ليصل إلى شاطئ الأمان الملغوم بالأهوال والمفاجآت..!! فلقد اختلط الحابل بالنابل، والمظلوم بالظالم، وازداد الطين بلة. ياناس دمرتنا تلك الصور لأبنائنا في بلد الغربة، أقسم بالله لقد أفسدت علينا بعض بصيص من أمل نحيا على أثر عودتهم لما نلمس من تحسن اقتصادي أفضل على صعيدهم الشخصي. كان هذا حديث النفس قبل أن أطرق باب "أم محمد" لتفقد حالها لمعرفتي أن ابنها يقطن تلك البلدة في غربته، طرقت الباب طرقاً خفيفاً وهممت أن أعود أدراجي.. فاستوقفني صوت كان مغموراً أكثر من كونه بعيداً.. فأعدت الطرق ودلفت إلى المنزل وناديتها مُتبعة سؤالي أين هي..؟ فتبعت الصوت الذي كان يرحّب بمقدمي ونظرت يميناً وشمالاً فوجدتها قد أخذت وضع الجنين في بطن أمه تحت بطانيتها في زاوية الغرفة..!!. لم ترفع رأسها لتنظر إلي وتكرر الترحيب فهي تعرف كم اعترضت وشجبت ونددت وحاولت إيقاف "محمد" ذي العشرين ربيعاً عن فكرة تهريبه من أجل طلب الرزق في بلاد الغربة.. فباشرتني من تحت بطانيتها بصوت يجهش بالبكاء، وكانت تجيد نظم الكلام القريب للقافية الشعرية على فطرتها من دون دراسة أو تعليم: صرخة أحدثت ضجيجاً في فؤادي صرخة تحمل ألماً تبكي لها المآقي صرخة تشكي بعاد الحبيب محمدِ أوه، أوه ياااامحمد ياحرقة قلبي قبل حريق لحمك ياقرة عيني قاومتُ غرغرة الدموع في عيني وانتزعت صوتي انتزاعاً من أعماقي وقلت لها: أهكذا تستقبلينني بقصيدة رثاء..!؟ سابقت لسانها دموعها وردت: أواه أواه من سحابةٍ سوداء حملتها العبراتُ المثقلة من بلد الإيمان بالصّرخاتِ والآهاتِ وأمطرتنا بوابل الإحزانِ فاسودت الدنيا وأشعلت النيران في كل ركن من أركان فؤادي أخذتُ بغطائها من فوق رأسها والتقت عيني بعينيها المنهكتين "وسألتها بالله" أن تهدئ من روعها، وبينت لها سبب زيارتي لها، حيث وابنها بمثابة الأخ الذي لابد من الاطمئنان عليه وغالطتها بأن شعوري يقول إنه بخير وسيعود عما قريب. فأطرقت تقول مخاطبه ابنها الغالي: ياااااامحمد هاك صوتي وأهاتي ياااااامحمد أسعف قلب أمك الولهانِ يااااامحمد هل النيران أكلت تلفونك السيار وضعتُ يدي على فمها وأقسمت عليها إن لم "تستهدِ بالله" لأترك لها المكان ولن أعود لزيارتها أبداً.. أمسكت يدي وضمّتها إلى صدرها وهي تقول: قبل أن يرحل قال لي: أمي إن أخبروك يوماً أني أختنق فنفسك.. دوائي أمي إن أخبروك يوماً أني أغرق فرضاك.. نجاتي أمي إن أخبروك يوماً أني أرتجف برداً فدعاؤك.. غطائي أمي إن أخبروك يوماً أني أموت جوعاً فشبعك قوتي.. وزادي أمي إن أخبروك يوماً أني مكسور فقامتك الصلبة.. عودي أمي إن أخبروك يوماً أني تحولت إلى رفات.. فجلوسك على قبري.. روضتي ولكن كفاية.. كفاية.. كفاية... لابد من طلب الرزق في بلد الغربة وأحتاج رضاك فارضي عني ياأمي. طوّقتها بذراعي الأخرى هامسة في أذنها بأن المؤمن مبتلى، وإلى الآن لا يوجد ما يؤكد بأنه حصل مكروه ولو سمح الله، فيجب عليكِ أن تتماسكي بشكل أقوى، وإن شاء الله يعود إليك وتقر عيناكِ به. أرخت رأسها على كتفي وأطلقت يدي بعد أن تنهدت وقالت: آه يابنيتي إنه الطائر الوحيد الذي أخفيته تحت جناحي واكتفيت به بعد موت أبيه.. فرفرف بعيداً عني يبحث عن حلم المال..!! كان دائماً يحدثني عن أهمية الغربة في حياته، ويقول لي كفاية مهانة، كفاية عذاب، كفاية معاناة... كانت كلمة كفاية لا تسقط من لسانه.. فآمنت أنه وصل إلى نقطة الاكتفاء المريرة التي لابد أن نشرع لها أبواب الرحيل فأطلقت سراحه.. فلوّح لي مودعاً فحجبت دموع عيني عن رؤيته بوضوح عندما ابتعد خلف هذا الباب ولكنه لم يرحل من قلبي ولم يبتعد.. فمازلت أذكر ملامح وجهه وجسمه بوضوح فهو.. عيني ومازلت أشتم أنفاسه فهو.. نفسي ومازلت أنسج القصائد التي كان يحب أن يسمعها مني فهو.. لساني ومازلت أغني كل مساء بنفس الإحساس الذي كان يغنيه معي فهو.. صوتي ومازلت أروح وأجيء على قدمي فهو.. صحتي ومازلت أحيا فهو.. روحي لا أذكر كيف ختمتُ لقائي بها..!! فقد أرهقتني.. وأخذت مني كل مأخذ.. وعدت مسرعة لأكوام القصاصات بين دفاتري على مكتبي، والمنثورة في أرض غرفتي، أرتبها لأعيد بعثرتها من جديد محاولة أن أفهم ما الذي يحدث.. فلم أستطع أن أفهم..؟ فهل يوجد بينكم من يفهم ما الذي يحدث.. فيشاركني بعض فهمه فأكتب من دون أن يظهر من بين سطوري كل ذلك الإحباط الذي أصابني جراء زيارة أم... فاصلة اليوم: !!!!!!!!!!!!