الإيطالي الذي أحب المكلا واعتنق الإسلام فيها    شبكة فوكس نيوز الأمريكية: الانتقالي الجنوبي يدعو واشنطن إلى شراكة أعمق مع الجنوب    المحافظ لملس يعزّي الصحفي صلاح السقلدي في وفاة والدته    الرئيس الزُبيدي يُعزّي في وفاة المناضل الأكتوبري حسين عبده الحداد    الترب:ليكن 2026 عام تطهير اليمن من الخونة وعملاء السعودية والامارات    اجتماع أمني بصنعاء يؤكد على سرعة انجاز القضايا    نادية الكوكباني تفوز بجائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية عربية للعام 2025    أرقام فلكية.. الفيفا يعلن عن الجوائز المالية لكأس العالم 2026    سان جيرمان يتوج بكأس القارات للأندية لأول مرة في تاريخه    طائرة شحن إماراتية محمّلة بالسلاح تصل مطار الريان بحضرموت    من بنى الأهرامات؟ عالم آثار مصري يشتبك مع عالم زلازل هولندي    الانتقالي و«إسرائيل».. تطبيع سياسي وأمني تحت مظلة أبو ظبي    مبارزو الأمانة يحصدون ذهب بطولة منتخبات المحافظات وصنعاء وصيفا وتعز ثالثًا    لمواجهة "التهديد الروسي".. ألمانيا تقر مشتريات عسكرية ب59 مليار دولار    بالهوية الجنوبية لا باليمننة يتحقق الاستقلال    أستاذ قانون دولي: تغطية إعلامية إقليمية ودولية غير مسبوقة تدفع القضية الجنوبية للصدارة    بين الاعتزاز والانسلاخ: نداءُ الهوية في زمن التيه    بعد أن أُوصِدت في وجهه أبواب الإنصاف.. رجل أعمال يقرّر الرحيل إلى مرّان بصعدة    شرطة أمانة العاصمة تكشف هوية الجناة والمجني عليهما في حادثة القتل بشارع خولان    من بينها اليمن.. واشنطن توسع حظر السفر على مواطني دول إفريقية وآسيوية    الصحفي والمقدم الإذاعي المتميز محمد السامعي    تسعون يومًا... ولم ولن أنكسر    اتحاد كرة القدم يعلن استكمال تحضيراته لانطلاق دوري الدرجة الثانية    أيها المؤرخ العلم: ما نسيناك !    بوادر أزمة غاز جديدة وقطاع قبلي في مأرب على ذمة أحداث حضرموت    الرئيس المشاط يعزّي الشيخ عبدالله الرزامي في وفاة أخته    روائية يمنية تفوز بجائزة أدبية في مصر    تفقد سير أعمال الترميم في جامع الجند التاريخي    ضبط زعيمة تهريب في المياه الاقليمية بقطاع خليج عدن    الخراز يكشف عن اختلاس مليشيا الحوثي ل 7 مليون دولار من التمويلات الدولية لليمن    الرئيس الزُبيدي يزور وزارة المياه والبيئة ويطّلع على المشاريع المنفذة لتعزيز الموارد المائية    صباح عدني ثقيل    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    اليابان تقدم حزمة مساعدات إنسانية جديدة لليمن بقيمة 13.8 مليون دولار    مؤشر الدولار يترنح قرب أدنى مستوياته وترقب لقرارات الفائدة    اليمنية تفرض شروط جديدة على المسافرين بنظام الترانزيت إلى جيبوتي    الصحفي والقيادي الإعلامي الكبير محبوب علي    أزمات خانقة تضرب المحافظات المحتلة: الغاز والوقود والرغيف تتزامن وسط انهيار الخدمات    الماجستير بامتياز للباحث عبدالله صبرة من الاكاديمية اليمنية العليا بصنعاء    إنشاء أكبر بحيرة مائية في أمانة العاصمة    دوناروما الأفضل في العالم: جائزة تاريخية لحارس إيطاليا في 2025    الأرصاد: سحب منخفضة كثيفة على السواحل تمتد نحو المرتفعات    هامبتون تتوج بجائزة فيفا لافضل حارسة مرمى في العالم 2025    اوفالي تتوج بجائزة فيفا مارتا 2025 لأجمل هدف في كرة القدم النسائية    صباح المسيح الدجال:    دراسة: الأطفال النباتيون أقصر قامة وأنحف من أقرانهم متناولي اللحوم    مأرب.. السلطة المحلية تكرم فريق نادي السد لكرة القدم بمناسبة الصعود لدوري الدرجة الثانية    وزارة الإعلام تكرم إعلاميات بمناسبة اليوم العالمي للمرأة المسلمة    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات الناجمة عن الأمطار في المغرب الى 21 شخصا    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    شبوة.. حريق داخل مطار عتق الدولي    مرض الفشل الكلوي (32)    الصحفي والمراسل التلفزيوني المتألق أحمد الشلفي …    ست فواكه تقلل خطر الإصابة بأمراض الكلى    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    الله جل وعلآ.. في خدمة حزب الإصلاح ضد خصومهم..!!    ضرب الخرافة بتوصيف علمي دقيق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حيفا والتّهجيرُ بعيونِ المُسنّةِ حلوة!
نشر في شهارة نت يوم 27 - 07 - 2013

المُسنّةُ حلوة إلياس من قرية المغار، والدة البروفيسور الموسيقار الفنان تيسير إلياس، مِن مواليد عام 1920، التقيتُها قبلَ أشهرٍ قليلةٍ مِن وفاتِها، وقدْ تعدّتِ التّسعينَ مِنْ عُمرِها، ولا زالتْ بكاملِ أناقتِها وهيبتِها وذاكرتِها المُتيقّظةِ، فلاقتْني بترحابٍ وبوجهِها الأبيضِ البَشوشِ الباسمِ، تُغطّي رأسَها وضفيرتَها الطّويلةِ بمنديلٍ أبيضَ يُضفي عليها مسحةً من وقارٍ، وبكاملِ تركيزِها وحَواسِّها السمعيّةِ والبَصريّةِ، أمْضيْنا معًا في حوارٍ شيّقٍ، وحديثٍ مُوثَّقٍ بالصوتِ والصورة، بعضُه سردَتْهُ باللغةِ العربيّةِ، وبعضُه بلغةٍ إنجليزيّةٍ تُتقنِها بطلاقةٍ وتمَيُّزٍ. ولم تتوانَ أن تُؤدّي أغنيةَ عبدِ الوهاب "خيّي خيّي حبيبي يا خيّي"، أداءً جميلًا.
قالت: لي أربعة إخوة، وأنا أكبرُ إخوتي كنتُ أتحمّلُ مَسؤوليّتَهم، وحين مضتْ أمّي لتُسمِدَ لنا البرغل وتطحن، كنّا ننام على سطح البيت، وأختي كانت أصغرَنا، مَشتْ بسرعةٍ ووقعتْ عن السّطح أمامَ ناظريّ، فرأيتُها تغرقُ بدمِها، وأسرعتُ أنادي أمّي وأصرخُ، وحينَ حضرْتْ أمّي، كانتْ أختي قد فارقتْ الحياة!
ولأنّي البكرُ، صرتُ رفيقةَ والدي في كلّ مشاويرِهِ، فكنّا فلّاحين نعيشُ حياةَ الفلاحةِ والزراعةِ، وفي أحدِ الأيّامِ ركّبَني أبي على الجَمل، وأخذني معَهُ إلى حيفا، حيثُ كانَ إخوتي يتعلّمون، وكانَ لنا أقرباء هناك، فأحببتُ حيفا، وأخبرتُ والدي أنّي سأبقى عندَ إخوتي، وأتعلّمُ حيثُ يَتعلّمونَ.
بعدَ العودةِ إلى المغار، قرّرَ والدي الانتقالَ للسّكنِ في حيفا تلبيةً لرغبتي، فاستأجرَ بيتًا في حيفا، وصرتُ أتعلّمُ في مدرسةِ الراهباتِ باللغةِ الفرنسيّةِ، لكنّني كنتُ أعشقُ اللغةَ الإنجليزيّةَ. بدأتُ أتعلّمُ دروسًا إنجليزيّةً ليليّةً في مدرسةٍ ليليّةٍ خاصّةٍ، ودروسًا إنجليزيّةً خاصّةً في البيتِ، فقد أحضرَ لي أبي المعلّم موريس الطبراني، الذي كان يعلّمُ اللّغةَ الإنجليزيّةَ لإخوتي في مدرستِهم، وبسببِ الحربِ بينَ العربِ واليهودِ، وحوادثِ قتلِ الشبابِ العرب الذين يُدحدِلونهُم بالشّوارع، خِربتِ الحالة بينَ اليهودِ والعرب، وتوقّفتُ عن دراستي في مدرسةِ الراهباتِ بسببِ الأحداثِ الّتي طالتْها، وتوقّفَ الأستاذ الطبرانيّ عنِ المَجيءِ إلى بيتِنا، خوفًا مِن طلقةٍ ليليّةٍ تُصيبُهُ، فكانَ أخي البكرُ مُتمكّنًا مِنَ اللّغةِ الإنجليزيّةِ، وأصرّ أن يُعلّمَني هو الإنجليزيّةَ في البيتِ، مِن خلالِ المُخالطةِ، وصارَ لا يتكلّمُ معي إلّا باللغةِ الإنجليزيّةِ فقط، ممّا كان يتسبّبُ في غضبِ أبي وأمّي أحيانًا، لأنّهم لا يَفهمونَ ما نقولُهُ.
كنتُ أقومُ بخدمةِ إخوتي في حيفا، حينَ يعودُ أهلي إلى قريةِ المغار لفلاحةِ الأرض وزراعتِها، وأيضًا في مواسِمِ قطافِها. وكانَ الانتقالُ والسّفرُ إلى حيفا يحتاجُ إلى تصاريحَ مِن دائرةِ الشرطة، أو إلى تصاريحَ للإقامةِ لشهريْنِ وما فوق، وفي مرّةٍ دعتْني صديقتي إلى شاطئ البحر (بيت جاليم- بيت الأمواج)، ففرحتُ بدعوتِها، وحين مَضيْنا إلى البحر، تحلّقَ الجنودُ الإنجليزُ مِن حولِنا يَتحركشونَ بنا، فهربتُ منهم، وفقدتُ ثقتي بتلكَ الصديقةِ، وأخبرتُ أخي الكبيرَ، فأمرَني بقطعِ العلاقةِ بها، وبدأ يُفكّرُ بإعادتي إلى أهلي في القرية!
وعندما بدأتِ الحربُ بينَ الإنجليز والألمان، حاولَ أبي إرجاعَنا إلى المغار، خوفًا علينا مِنَ الحربِ، ولأنّ وسائلَ الاتّصالِ كانتْ مُنقطعةً، وأثناءَ الحربِ كانتِ البيوتُ تظلُّ مُعتمةً. لكنّ الغاراتِ الجوّيّةَ الّتي تقصدُ المَراكزَ الحكوميّةَ وليسَ المَدنيّينَ، كانتْ تضربُ عندما يَظهرُ القمرُ، ويَكشفُ معالمَ حيفا، فكانتْ تدعونا جارتُنا مؤجِّرةُ البيتِ إلى عَقدِها الصّغيرِ لنختبئَ معها، لأنّهُ قويٌّ ومتينٌ وسميكٌ، لا تقوى عليه الغاراتُ، فكنّا أطفالًا نرتجفُ خوفًا، فتَحضنُنا، وتدعو محمّدَ ونصرَتَهُ، ونحنُ ندعو مَريمَ العذراءِ وحِمايتَها، إلى أنْ تمّتِ الغلبةُ للإنجليز.
في سنّ الخامسة عشر مِن عمري، بدأ الشبابُ مِن حيفا يتقدّمونَ لخِطبتي، وكانَ لكلِّ منهم مَركزُهُ ووظيفتُهُ، لكنّي كنتُ أرفضُ فكرةَ الزّواج، كي أُتابعَ عِلمي، وكنتُ أتحجّجُ وأبْدي رغبتي بالزّواجِ مِن إنكليزيٍّ وليسَ من عربيٍّ، فيضحكُ أبي، ويَعدِلُ عن النيّةِ بتزويجي.
وفي يومٍ، تمّ الاتّفاقُ على تحديدِ موعدِ خطبتي بأحدِ المُوظّفينَ، وكانَ يَتيمًا لهُ ثلاثُ عمّاتٍ، وكلٌّ منهنَّ تطمعُ بهِ زوجًا لابنتِها، فأخبرَ والدي في اللحظاتِ الأخيرةِ، أنّ عمّاتِهِ لن يَحضرْنَ للخطبةِ، بسببِ رفضهِنّ العروس، فألغى والدي الخطبةَ ولم تتمّ، لكنّ النصيبَ ثبتَ على زوجي مِنَ البعنة، جارة دير الأسد في الجليل.
وقد تحدّثتْ أمّ راسم عن الانتدابِ البريطانيّ، وعن ثورةِ البراق في أوائلِ الثلاثينات، حينَ أُعدِمَ 26 مناضلًا فلسطينيًّا في سجن قلعة مدينة عكّا، وحَكمتْ بالسجنِ المُؤبّدِ على 23 فلسطينيًّا آخرين، وقد أعدَمَت عطا الزير، ومحمّد جمجوم، وفؤاد حجازي، وقبلَ إعدامِهم كانوا يَلبسونَ ثيابَ الإعدام الحمراء، ودون خوفٍ يُنشدونَ بفرحٍ قصيدةَ الشاعر السوري نجيب الريّس، وصارَ الثوّارُ يُغنّونَها في سجن عكّا، ووصلتْنا وصرنا نُردّدُها ونُغنّيها. وكقائدةٍ محاربةٍ، أنشدَتْها بإلقاءٍ خطابيٍّ قويٍّ، تبثُّ العزمَ في سامعيها:
يا ظلامَ السجنِ خيِّمْ/ إنّنا نهوى الظّلاما/ ليسَ بعدَ اللّيلِ إلّا/ فجرُ مَجدٍ يَتسامى/
إيهِ يا دارَ الفخارِ/ يا مقرَّ المُخلصينا/ قد هبَطْناكِ شبابًا/ لا يهابونَ المَنونا/
وتعاهدْنا جميعًا/ يومَ أقسمْنا اليمينا/ لن نخونَ العهدَ يومًا/ واتّخذْنا الصِّدقَ دينا/
أيّها الحُرّاسُ رِفقًا/ واسْمَعوا منّا الكلاما/ مَتِّعونا بهواءٍ/ كان مَنْعُهُ حَراما/
لستُ واللهِ نسيًّا/ ما تقاسيهِ بلادي/ فاشْهَدَنَّ يا نجمُ إنّي/ ذو وفاءٍ وودادِ/
يا رنينَ القيدِ زِدْني/ نغمةً تُشجي فؤادي/ إنّ في صوتِكَ معنًى/ للأسى والاضطهادِ/
لم أكنْ يومًا أثيمًا/ لم أَخُنْ يومًا نظاما/ إنّما حُبُّ بلادي/ في فؤادي قد أقاما
ثمّ تابعتْ تقولُ:
ولدتُ ابني البكرَ وابنتيْنِ في الزمنِ الإنجليزي في عكّا، ثمّ احتلّ الجيشُ اليهوديُّ بلادَنا، فهربنا الى البعنة، ولما وصل الجيش إلى البعنة، أرسلَ المُختارُ الناطورَ، يَطلبُ مِنَ الأهالي أن يُعلّقوا مَلاحفَ وشراشفَ بيضاءَ على سطوح البيوتِ، كإشارةٍ وعلامةٍ أنّنا مُسالمونَ، وأنّ البلدَ مُسالمةً لا تريدُ الدمَ!
حينَ دخلَ الجيشُ اليهوديُّ إلى البلدِ، طلبَ المختارُ مِنْ قطروزِهِ أنْ يُخرجَ الأهالي؛ أطفالًا ونساءً وكبارًا وصغارًا وشبابًا وشيوخًا مِن بيوتِهم، فتجمّعَ الأهلُ بينَ دير الأسدِ والبعنة، واختارَ الضّابطُ اليهوديُّ رَجُليْنِ؛ مسلمًا ومسيحيًّا، يَلبسان حطّة (كوفية)، رَموهُما بالرصاص على مَرأى الأطفالِ وأهلِ البلدَيْنِ، ودَحدَلوهُما مِن أعلى الشارع إلى أسفلِهِ، لترهيبِ وتخويفِ وترويعِ الأهل.
ثمّ قامَ الجيشُ اليهوديُّ يَلمّونَ الرجالَ والشبابَ للسّجون، وليَخدُموا في الجيشِ وفي الأعمالِ الشاقّةِ بالسُّخْرةِ، وصرَخوا في الشيوخِ والنساءِ كي نُغادرَ البلدَ، فأخذتُ دابّتي الحمارةَ وأطفالي، وقليلًا مِن الطحينِ والسكّرِ والحبوبِ، ولكن دونَ ثيابٍ، ومَضيتُ معَ النازحينَ في البَردِ، نُهرولُ ونولولُ ونبكي، ومَضيْنا صوْبَ لبنانَ وتحتَ المطر.
في طريقِنا، مرَرْنا بقريةِ نحَف الجليليّةِ، وإذا بالقتلى مُحمّلين على البقر، يَسوقُهُم الجيشُ في اتّجاهٍ واحدٍ، فخِفنا وصِرنا نُسرعُ الخطى للهروبِ، قبلَ أنْ يُصيبَنا ما أصابَ قتلانا، لكنّ دابّتي المُنهكةَ لم تَكُنْ تُعينُني، فأنزلتُ ابنتي عن ظهرِها وحمَلتُها، وبَقيَ طفلانِ على ظهرِ الدابّةِ، وحينَ مرّ بي رجُلٌ على فرسٍ، طلبتُ منهُ أنْ يُساعدَني، ويَأخذَ ابنتي معَهُ، فأخذَها ومَشيْنا ومَشيْنا، وطالتِ المَسافاتُ بيْنَنا، وغطّى عتمُ اللّيلِ المَساربَ والدّروبَ، ولمْ أعُدْ أرى أحدًا، فخفتُ وصِرتُ أبكي وأصرخُ وأنادي: يا الّلي أخدت بنتي على الفرررررس، دخيلَكْ رجِّع لي بنتي!
وعادَ لي صوْتُهُ مِن بعيدٍ: يا أختي، لا تخافي.. بنتك بأمان!
وظلَّ ينتظرُني، إلى أنْ سلّمَني إيّاها.
حين مَررْنا بقريةِ ساجور الجليلةِ بلدِ الدروز، لحِقنا بمَجموعتِنا ومَن لجَؤوا إليها، إذ كانَ الوضعُ هادئًا فيها، لأنّهم أصدقاءٌ لليهودِ، وظللتُ وحيدةً بعيدةً عنِ المَجموعةِ، أضُمُّ أطفال. وحينَ جلستُ أرتاحُ، "راحتِ السّكرة وجاءت الفكرة"، فأخذت أبكي وأحضن أطفالي!
حضرَ رجُلُ البيتِ يَطلُبُ منّي الانضمامَ إلى مجموعةِ بلدي، فأخبرتُهُ أنّي لا أعرفُ أحدًا منهم، وأنّي غريبةٌ عن البلد ومقطوعةٌ، وأنّي مِن قريةِ المغار، فعرفَ أهلي وعائلتي، وندَهَ زوجَتَهُ كي تفتحَ لي المَضافةَ قائلًا: هؤلاء أهلها ياما أكلتُ مِن خبزِهِم وخيْرِهِم!
وبرمشةِ عينٍ، دَشَعَتِ النّساءُ وأطفالُهُنَّ للمَضافةِ، وأكلَ الجميعُ وأكلتُ معَ أطفالي، بعدَما استشعرتُ قليلًا مِنَ الأمانِ، وبعدَما أطعَموا دابّتي واطمأنّ قلبي.
في الصباحِ قرّرنا أنْ نُغادرَ ونتابعَ المَسيرَ، لكن أحد الرجالِ طلبَ منّا التمهُّلَ والتصويت، هل نُشَمِّلُ للبنانَ، أم نعودُ إلى بلدِنا ونختارُ الموتَ فيه؟!
كانَ الصوتُ الأرجحُ يُنادي بالعودةِ والموْتِ، فعُدْنا للبلدِ على وجهِ اللهِ وبرَكتِهِ!
لكن بعدَ يومَيْن، عادَ 130 جنديًّا مِن الجيشِ اليهوديِّ للبلدِ، حينَ رأوا القناديلَ المُضاءةَ في اللّيل، وطلبوا مِنَ المُختارِ تفريغَ البلدِ مِنْ أهلِها اللّيلة، فوعدَهُمُ المُختارُ أنْ يكونَ في الغدِ ما يُريدونَهُ، وبسرعةٍ، أرسلَ النّاطورَ إلى البيوتِ، ليَجمَعَ مِن كلِّ بيتٍ ليرتيْن، ليُحضِّرَ وليمةً للجيشِ اليهوديّ، وأحضرَ المَشروباتِ الروحيّةَ لهُم، وعشّاهم، وحينَ سَكِرَ الضابطُ وجنودُهُ، طلبَ منهُ المُختارُ أنْ يُوَقِّعَ على وثيقةِ إبقاءِ الأهلِ في البلدِ، وهكذا نجا الأهلُ مِنَ التّشريدِ والتّغريبِ، وبقوْا في بلدِهِم!
بعدَ خمسةِ شهور، أخرَجوا الرّجالَ العربَ مِنَ السّجونِ، ولكن أعادوا إلى البلدِ فقط، مَنْ بَقِيتْ زوجَتُهُ وأطفالُهُ في البلدِ، ومَنْ رَحَلتْ نِساؤُهُم إلى لبنان، أخذوهُم بسيّاراتِ الجيشِ، وألْحَقوهُم بنِسائِهم إلى لبنان، وكبّوهُمْ على الحدود!
بعدَ الاحتلالِ، صارتْ هناكَ دكاكينُ إعاشةٍ في كلّ بلدٍ وبلدٍ، تُوزّعُ مُؤنًا أساسيّةً على أهلِ البلدِ، وبكمّيّاتٍ مُحدّدةٍ، بحسبِ عددِ أنفارِ الأسرة، وكانَ النّاسُ يَقفونَ في صفٍّ طويلٍ، وينتظرونَ دوْرَهُم، ليأخذوا نصيبَهُم مِنْ سُكّرٍ وزيْتٍ وطحينٍ وقهوة.
بمشوارِ حياتِنا يا ما عانينا وشفنا وذقنا، فلمّا كنّا في البعنة، كانتِ الحياةُ مُرّة وبدون ماء، وزوْجي كانَ يعملُ خارجَ البعنةِ ويعودُ ليلًا، فكنتُ أنتظرُ حتّى الظهر بعدما يَنام أولادي، وأمضي مِن البعنة إلى عين الماء في دير الأسد، وأمشي مسافةً طويلةً حتّى أُؤَمّنَ الماءَ في البيتِ للشّربِ والغسيلِ، وبسببِ الظروفِ الصعبة، انتقلناعام 1962 للسكن في مدينة شفاعمرو، ومكثنا في بيتِنا المُستأجَرِ أربعةَ شهورٍ بدون ماءٍ، ولكن كان لدينا جيران طيّبون، أخذنا مِن عندهم الماء، إلى أن أتمَمْنا مُعاملاتِ البلديّة، وصارَ في بيتِنا خطّ ماء!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.