شكل تكرار الأزمات المالية على مدى السنوات والعقود الماضية وانهيار الأسواق المالية والبورصات وشركات التأمين والرهون العقارية في الولاياتالمتحدةالأمريكية خلال الأسابيع الماضية ظاهرة مثيرة للجدل والقلق والاهتمام المحلي والدولي وما نتج عن أسباب ذلك الانهيار من آثار مدمرة وسلبية حادة وخطيرة تهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ليس فقط للولايات المتحدةالأمريكية فحسب بل وامتد ذلك الانهيار إلى تعريض اقتصاديات العديد من الدول المتقدمة والناشئة في أوروبا وآسيا إلى نفس القدر والمصير المحتوم الذي عصف بكبريات المؤسسات والمصارف العالمية وانتشار هذه الأزمة لتشمل دولاً أخرى نامية وخصوصاً منها في المنطقة العربية كمصر والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والعديد من الدول العربية الأخرى نتيجة الانفتاح الاقتصادي والمالي الذي تشهده هذه الدول على الاقتصاد العالمي واندماجها في منظومة منظمة التجارة العالمية، كما أن وتيرة هذه الأزمة تلاحق عالمياً العديد من الدول لتشمل دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية لتزداد حدة الأضرار الناجمة عن ذلك الاعصار لتشمل دولاً نامية أخرى. وهذا يؤكد الحاجة الماسة إلى تحسين وتطوير مستوى الرقابة المصرفية وفق مقررات بازل للرقابة المصرفية وخصوصاً في الدول ذات الأسواق الناشئة والدول النامية الأخرى، ولهذا السبب فإنه لايمكن ارجاع الأزمات المالية لسبب واحد لأن هناك جملة من الأسباب تضافرت فيما بينها في آنٍ واحد لإحداث هذه الأزمة المالية والتي تعزى إلى التقلبات وانخفاض شروط التبادل التجاري والتي يصعب على عملاء البنوك ذات العلاقة بالتصدير والاستيراد الوفاء بالتزاماتهم خصوصاً منها خدمة الديون. وتعد تقلبات أسعار الفائدة العالمية أحد أهم المصادر الخارجية المسببة للأزمات المالية في أكثر من دولة في العالم، فالتغيرات العالمية الكبيرة في أسعار الفائدة لاتؤثر فقط على تكلفة الاقتراض بل الأهم من ذلك أنها سوف تؤثر على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الدول النامية في المستقبل القريب ودرجة جاذبيتها. وعلى المستوى المحلي هناك تقلبات في معدل التضخم الذي يعتبر عنصراً حاسماً في مقدرة القطاع المصرفي في أي بلد على القيام بدور الوساطة المالية وخصوصاً في عملية منح الائتمان وتوفير السيولة وقد اعتبر الركود الاقتصادي الناتج عن ارتفاع مستويات الأسعار سبباً مباشراً للأزمات المالية في العديد من دول أمريكا الجنوبية والدول النامية خلال الفترات الماضية. إن الهيمنة الاقتصادية للنظام الرأسمالي أثبتت اليوم أنها هيمنة زائفة مقارنة ببقية الدول المتقدمة كاليابان مثلاً فضلاً عن تراجع قطاع الصناعات التحويلية الأمريكية نتيجة انسحاب كثير من القوى البشرية العاملة في القطاع.. ناهيك عن تراجع الانتاجية والعجز في الميزان التجاري، ويرجع سبب ذلك التراجع إلى أن الشعب الأمريكي مجتمع مستهلك أكثر منه منتج إذ يعتمد على الاقتراض أكثر من الادخار.. وأمام أوجه الأزمة المالية والاعصار المالي والاجتماعي التي تعاني منه اليوم النماذج الرأسمالية والدول النامية على حدٍ سواء رغم التدخل الحكومي والدعم بضخ مئات المليارات من الدولارات الأمريكية وشراء حصص وأسهم بعض المؤسسات والبنوك لابقاء القطاع المصرفي وكثير من الشركات والمؤسسات المالية وبرغم ظهور بعض المؤشرات وبوادر الانتعاش والانفراج للاقتصاد العالمي وللأسواق المالية والبورصات وتذبذبها خلال الأسابيع الماضية نتيجة التقدم في مجال تقنية المعلومات والاتصالات في كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي إلا أن هناك شكوكاً في هذا الانتعاش المؤقت، حيث إن تطبيق هذه التقنية واستخدامها من قبل مجتمع يتقهقر فيه مستوى التعليم والثقافة والذي لن يقدم أية اضافات جديدة عالية على مستوى الانتاجية لأن تراجع مستوى التعليم والثقافة بالتأكيد سوف يؤثر سلباً على مستوى التقدم التقني كون التقدم الصناعي والتقني يتوقف على وجود طبقات من العلماء والمثقفين في المجتمع لأن الانهيارات الاقتصادية للنموذج الرأسمالي اليوم سببها أوهام عدة كانت سائدة لدى الاقتصاديين من بينها وهم حرية التبادل التجاري والوهم النقدي. كما يفسر بعض الاقتصاديين ويرى بعض صانعي القرارات في هذه الدول أن الحمائية أصبحت بالية اليوم لاتتناسب والمعطيات الجديدة رغم أن بلدانهم ماتزال حتى اليوم تعتمد على أشكال عديدة من هذه الحمائية الضمنية. إلا أن بعض المفكرين الاقتصاديين يرون أن هناك علاقة عكسية بين ظهور الحواجز الحمائية وارتفاع معدلات النمو في الدول المتقدمة، حيث يعتبر أن حرية التبادل التجاري تحد من النمو نتيجة لتقليص الطلب المحلي على السلع والخدمات المنتجة محلياً في مختلف البلدان، الأمر الذي سوف يؤدي ويولد انخفاضاً في الطلب الكلي على مستوى العالم بينما يرى آخرون أيضاً أن حرية التجارة الدولية سبب من أسباب عدم المساواة بين المجتمعات والأفراد لاسيما الطبقات ذات المهارات المتدنية وعملية النمو الاقتصادي تمكن من تشجيع القدرات المحلية من خلال دعم القدرات الانتاجية من جهة وضمان طلب محلي كاف من جهة ثانية. ويرون أنه لن يتحقق ذلك النمو إلا من خلال مجتمع يستند إلى هيكل أسري موحد وفي اطار اقتصادي منظم يحمي صناعاته وطاقاته العملية من المنافسة الخارجية وكما هو معروف تاريخياً فإن الثروة والمال كانت بمثابة القوة التي تبحث عنها المجتمعات المتقدمة لملء الفراغ الثقافي والعقائدي حيث أصبحت الثروة محوراً مهماً في حياة الأفراد وصارت السياسات والتوازنات النقدية محوراً رئيسياً بالنسبة لدوائر صنع القرار تفوق في أهميتها قضايا النمو وتوزيع الدخل. إن هيمنة الدول الرأسمالية على مستقبل المجتمعات تعد اليوم جزءاً من الخيال لأن الأزمات التي تعيشها هذه الدول من انهيارات وتقهقر وتراجع في مستويات النمو، وغياب المساواة وارتفاع البطالة والفقر وتسريح العديد من العاملين من أعمالهم الناتج عن انهيار النظام المالي وعدم اتساق القرارات المتخذة مع مصالح الشعوب عكست اليوم مشاكل وأزمات أعمق من ذلك الانهيار المالي تمثلت في اندثار العقائد المجتمعية وغياب مفهوم الأمة والذي لايمكن اصلاحه من خلال ضخ مليارات وتريليونات الدولارات أو قيام الحكومات بشراء ومشاركة القطاع الخاص فيه أو من خلال برامج اقتصادية بحتة وإنما من خلال إعادة مفهوم الأمة وقيمها لأن الفرد يستمد قوته من خلال شعوره بالانتماء إلى مجتمعه وأمته. ومن هذا المنطلق يمكن البحث عن أفكار جديدة للخروج من هذه الأزمة تخرج عن الاسلوب المعروف والمألوف لدى اقتصادي الرأسمالية والمتمثل في البحث ضمن الدوائر الاقتصاديي الدولية وايلاء الأهمية نفسها لنواحٍ غير اقتصادية.