استطاعت غزة بمن فيها أن تلفت أنظار العالم إليها؛ حتى أولئك الذين لا يحبون غزة ولا أهل غزة ولا يحبون القضية الفلسطينية ولا المقدسات فيها، وكل واحد من الناظرين ينظر إليها بطريقته. ولعل أصحاب القيم الدينية والإنسانية النبيلة ينظرون بعين العدل والحقيقة لما يحدث، وعلى هذا الأساس يحددودن مواقفهم وتصريحاتهم.. كشفت غزة كل المواقف وبينت صدق هذه المواقف من زيفها، وكذلك الحال بالنسبة للمشاعر التي يتسابق أصحابها من الدول والأقطار للتعبير عنها وقد تبين الرشد من الغي. أعترف أن غزة قد استأثرت بكل اهتماماتي؛ ولم أستطع أن أهرب منها حتى في لحظات الكتابة فأجدها أمامي كلما خطرت لي فكرة للكتابة؛ فتدفع كل فكرة وتحل محلها وتنتصب غزة في مقدمة كل السطور مصرة على أن تبقى في الصدارة حتى إشعار آخر، وربما هي كذلك عند غيري وأكثر من ذلك عند الكثيرين ممن يحسون بما يجري لأهل غزة من مذابح كشفت زيف القيم والمواقف. وكشفت قبح السياسة وأصحابها عندما يقولون ما لا يفعلون، وعندما يصرحون للإعلام بشيء ويقولون شيئاً آخر في كواليس السياسة واللقاءات المغلقة ولهم رسائلهم التي لا يفهمها الكثيرون من الناس وهي تحمل في طياتها حقيقة المواقف وأسرار التآمر والخيانة والتواطؤ. لأن غزة وأهلها يستحقون كل هذا التعاطف والاهتمام ويستحقون ما هو أكثر من مجرد التعاطف والحديث العابر عن المأساة، إنهم يستحقون أن يرتقي الحكام وأهل السياسة من أصحاب القرار إلى مرتبة الآدمية ويحسون بحقيقة ما يحدث ويبنون مواقفهم على هذا الإحساس بإنسانية الإنسان الفلسطيني المصلوب على أعواد المشنقة المفتوحة والتي لها وجهان اليوم، وجه الحصار ووجه العدوان المسلح الذي لا يفرق ولا يريد أن يفرق بين صغير وكبير وبين مقاتل ومواطن لا يحمل سوى الانتماء لذات الأرض والقضية لو أن الذين يدّعون قيماً إنسانية وأخلاقية في العالم صَدَقوا في ما يدّعون لما سكتوا أو تواطأوا مع أبشع الجرائم التي تنافي القيم والأخلاق الإنسانية لتصل هذه الجرائم إلى وضع لا يمكن السكوت عنه. لقد تحول العالم الصامت إلى ما هو أسوأ من الغابة التي لها قانونها المعروف؛ لكن ما يحدث لأهل غزة أسوأ وأبشع من كل ما قد يحدث في الغابات؛ حيث لا وحشية أكبر من وحشية الكيان الاسرائيلي، ولا غابة أخطر من هذا العالم الذي يتشدق فيه الغرب والشرق بالحقوق والحريات ويجيزون مثل هذه الجرائم التي تستنكرها وحوش الغابات وترفض حدوثها، لكن غابة الإنسان شهدت هذه البشاعة ومارسها الإنسان وسكت عنها الإنسان، فماذا بقي من إنسانيته اليوم؟!. وماذا بقي من القيم والأخلاق والحقوق التي يتحدث عنها ليل نهار؟ ماذا بقيت من عروبة الإنسان العربي وهو يشاهد إخوة له يذبحون ويقتلون ثم لا يملك إلا الخطب والخطابات والهتافات التي لا تشبع جائعاً ولا تداوي مصاباً ولا تدفن شهيداً ولا تمسح دمعة يتيم أو ثكلى ولا تدخل غذاء أو دواء من معبر مغلق بالأوهام والحسابات الخاطئة؟!. ماذا بقي من أمة يذهب تاريخها بكاء، ويكتب تاريخها بالدموع وهي لا تملك سوى هذه البضاعة الرخيصة، وثمة بضاعة أغلى لو أن هذه الأمة تقرأ تاريخها جيداً وتفهم تفاصيل هذا التاريخ وتستفيد مما تقرأ وتفهم لو أن هذه الأمة لم تزل حية تجري في شرايينها وأوردتها الدماء؟!. سوف تظل هذه الحقائق تلاحقنا جميعاً، فإما أن تبعث الأمة من جديد أو تؤكد حقيقة الفناء، وإن قيل إنهم مازالوا أحياءً.