ربما سنندب الأيام الخوالي لما قبل عصر الانترنت والموبايل والفضائيات، لأنها كانت أكثر جوداً علينا بالفضائل من هذا العالم المتواري خلف الشاشات، والذي يغرقك بمثالياته صباح مساء، حتى إذا حان وقت الجد اكتشفنا أن عالمنا أجوف ولا يجيد غير القرع بالصوت النشاز المرتفع. وأنا أتابع أحداث الحرب على غزة عبر الفضائيات قفز إلى ذهني تساؤل عن مشائخ الافتاء الذين كانوا يغرقون الفضائيات بفتاوى الجهاد في العراق ضد الاحتلال الأمريكي، والبعض منهم ضد «البعث» أو «الشيعة» أو «السنة» أو «المسيح» حتى تحولت شوارع العراق إلى أكبر مسالخ العالم، وبات كل واحد يتوقع دخول أحد «الذباحين» عليه في أي وقت من النهار والليل ليذبح رضيعه بين يديه، أو زوجته أو هو نفسه !. طوال الأعوام الماضية من عمر الاحتلال الأمريكي للعراق ما كان يمر يوم من غير فتوى جهادية تأتي عبر إحدى القنوات الفضائية أو أحد المواقع الالكترونية.. فيا ترى أين ذهب مشائخ الفضائيات والانترنت طوال الأيام الماضية من مجازر الإبادة الصهيونية لأبناء غزة ؟ هل للدين عندهم مواسم وخصوصيات، أم أن الدماء التي سالت في غزة لم تكمل «النصاب الشرعي» لإصدار أي فتوى جهادية ؟ وللأمانة والإنصاف نقول: إن مشائخ الفضائيات والنت لم يتغيبوا نهائياً عن أدوارهم القديمة أيام العدوان على غزة، بل ظهروا ذات يوم، وأصدروا فتواهم الأخيرة وتواروا.. ولم تكن فتوى جهادية هذه المرة، بل فتوى تحريم المسيرات والمظاهرات المناصرة لغزة، واعتبارها ضرباً من «الغوغاء».. على حد قولهم. عندما سمعت تلك الفتوى أيقنت أن مشائخ الافتاء، الذين أهلكوا نحو مليون عراقي بفتاويهم الجهادية ضد هذا المذهب، أو ذاك، أو ضد هذا الحزب أو ذاك لم يكونوا سوى مشائخ فتنة، وأدعياء دين، وأنهم أصل خراب هذه الأمة، وما يلحق بأبنائها من ويلات. حين استحضر إلى ذاكرتي مصيبتنا بمشائخ الفضائيات أحمد الله كثيراً على فضله على علماء اليمن وأهلها بالحكمة والإيمان.. فكم مرت من أحداث بالبلد لم يصدر عالم واحد فتوى ذات صبغة مذهبية، أو تناقض الشرع.. كما أنهم ليسوا من هواة الافتاء كما هو حال علماء بعض البلدان الإسلامية.. بل حتى فتواهم حول غزة كانت حكيمة وشجاعة، فقد دعت إلى الجهاد لنصرة أبناء غزة، في نفس الوقت الذي دعت فيه إلى فتح الطريق للمجاهدين للعبور إلى ميادين المعركة. أعتقد أن الفهم الحقيقي للدين هو القوة التي يمكن أن تستلهمها الأمة، فإذا لم يكن الجهاد فرضاً حين يبيد اليهود نساءنا وأطفالنا في غزة أمام أعيننا فمتى ستجاهد الأمة يا مشائخ الفضائيات ؟ ولماذا أنتم علماؤها إن كنتم ستغيبون يوم البلاء، وتظهرون يوم الرخاء لتنغَّصون علينا حياتنا بفتاويكم البليدة.. فهل ستصلح شئون الأمة بكم إذا كان أحدكم يفتي بأن وجود المرأة المريضة مع المسعف أثناء نقلها إلى المستشفى تعتبر «خلوة غير شرعية»؟.