لا تنتهي حكاية يأس أراها في عيون طفل إلا وتبدأ مشاعر بؤس أخرى أعيشها في عيني طفل آخر.. حكايات أطفال الشوارع لا تنتهي.. بدأت عندما ظلم قابيل أخاه هابيل.. واستمرت حكاية طويلة حتى يقف الجميع بين يدي الواحد الأحد.. ماذا أحكي لكم عن عيون ماؤها التعب وقلوب صغيرة نبضها الغضب.. لن تصدقوا إلى أى مدى وصل سخط هؤلاء الأطفال على مجتمعهم بداية بالأسرة ونهاية بعالم كبير، طيور السماء فيه لا تُمنح فرصة التعارف مع صيادٍ ماهر ما للحريات التي منحتها القوانين البشرية؟!! ليس فيها قانون واحد يدعو إلى حساب الذات والوقوف أمام عدالة الضمير.. هؤلاء البشر الصغار أليس لهم عروق تربطهم بذويهم.. أين الأرحام التي حملتهم شهوراً وأياماً.. أين الآباء الذين رسموهم أملاً على راحتيهم قبل أن يروا سماء الحياة.؟ هشام.. طفلٌ في العاشرة من عمر حزين.. التقيته على الرصيف يتوعد رجلاً أكبر من عمره بعقودٍ طوال.. ملطّخ وجهه بزيتٍ أسود.. شعرهُ يكاد يصلُ كتفيه.. قميصه مصبوغ بالقذارة.. وكان حافياً لما سألته سبب توعده بذلك الرجل أخبرني أنهُ يبتزه دائماً ويحاول تعليمه الرذيلة.. ويشتم أمهُ بألفاظ قبيحة.. وانصرفت.. انصرفت وأنا أتوه خطواتي.. الأطفال الذين مُزقت أواصرهم.. وأحرقت مآقيهم.. وسُكبت أحلامهم رماداً في مهب الريح.. لم تحتويهم منازل، ولم يرحمهم «رجال الشوارع».. لم يفكر بهمومهم أحد، ولم يحتوِ إنسانيتهم بلد.. عندما تحدثت مرةً عن قسوة الحياة في بلدان العالم الثالث لم أجد من يشاطرني الرأي، لكن ما زلت أرى أنني مُحقّة حتى لو لم يقف العالم كله معي.. إذ كيف ينقصنا الملح ونستورد السكر؟ كيف نحتاج القمح ونستورد الشوكلاته؟ كيف ينضب ماؤنا ونستقدم العمالة الفكرية ونسمح لجيل كامل تطبيع أفكاره غربياً..؟!. الواقع أننا لم نصب طموحاتنا الوطنية في مصبها الصحيح.. فالمفروض أن نكرس جهودنا على رفع مستوى الإنسانية والإنتاج الفكري وأن تكون ميزانية التعليم أقوى وميزانية البحث العلمي والتطوير التربوي والتوعية الثقافية الصحية والبدنية وحتى الجنسية أكثر قوة من أية ميزانية أخرى.. لماذا لا تحشد الطاقات الخاملة لدينا إلا لاتجاهات حزبية أو إرهابية أو ذاتية.. لماذا نختبئ خلف جدار المسؤولية ونحن لا نملك حق الوقوف على أرض العطاء.. لماذا ننتظر موت المحارب.. ونفاد الذخائر.. وانتماء الأرض للسماء.. لماذا؟ ونحن على يقين بأن مثل هشام.. وجد على رصيف حزين يملؤه الذهول.. وتُصب في شرايينه معاني الوطنية بأكثر من لغة فلا يفهم ما يريده منه هؤلاء أو أولئك. أليس من حق هؤلاء الأطفال على آبائهم أن يعلموا سبباً واحداً يجعلهم خارجين عن أسوار الأبوة.. لماذا نباهي بوصف عبقرية الرحمة في قلوبنا.. ونقف عند هؤلاء.. لماذا يكون في مجتمعنا وبين صفوفنا وأمام إرادتنا مثل هذه الطبقة.. من أين أتى هذا السفور الروحي الذي يجعل الأم تبيع لأجل حياتها موت الآخرين.. من أين نبع هذا الجزف الأبوي الذي يملأ أرواح الآباء المنشطرين عن جسد الانسانية؟.. لماذا لا تتعالى الأصوات حول اتفاقيات حقوق الطفل لتصل هذه المعاناة إلى رحم المستحيل فلربما كان مولودهُ غداً قانوناً يجمع النائمين من على الأرصفة مثلما كان قانونه بالأمس جمع كلاب الشوارع!! ألا يشوّه تشرد أولئك الأطفال جمال إنسانيتنا كما يشوّه جمال مدينتنا النائمة في أحضان صبر..؟!