مع تنامي مآسي المجتمع من تعقيدات الحياة العصرية، وما جرّه الانفتاح من تبعات أخلاقية ترجمت نفسها بمظاهر انحلال، وشذوذ، وتفكك أسري، وجرائم نوعية، نجد أنفسنا أمام حالة إخفاق في ضغط التوازن بين المطلب الحضاري الحداثي وبين المطلب التهذيبي الأخلاقي الذي يحول دون تحول الانفتاح إلى نقمة. قبل عقدين وأكثر كان رجال الدين يستبسلون في قطع الطريق على أية مبادرة انفتاحية خوفاً من سقوط المجتمع في مستنقع الرذيلة، غير أن الحداثيين كانوا يرون استحالة عزل المجتمع عن ركب التصور المذهل الذي يشهد العالم من حولهم.. وفي ظل تعصب كل طرف لرأيه، وجد الانفتاح طريقه إلى حياة المجتمع كضرورة حتمية تمليها الثورة التقنية قبل أي شي آخر. كان متوقعاً أن يقابل رجال الدين والتيارات الإسلامية حالة الانفتاح باستنفار غير مسبوق للحد من الآثار السلبية التي قد تطال قيم وعقائد المجتمع وأخلاقياته، إلاّ أن المفاجأة كانت مدهشة، إذ أن المنظومة الدينية انغمست في الأجواء الانفتاحية بحماس شديد، وصار شغلها الشاغل هو العمل الحزبي تحت مظلة الديمقراطية، وإدارة الجمعيات، ثم التسابق على إنشاء منظمات المجتمع المدني والانهماك في البحث عن المانحين، والممولين، وتنظيم الفعاليات والأنشطة التي تشهرها، وتصنع لها موقعاً بديلاً عن ما كانت تتبوأه من مركز ديني في أوساط المجتمع. إن ما يشهده المجتمع اليوم من مظاهر انحلال،وفساد، وفوضى، وجرائم هي في الحقيقة نتاج الفراغ الذي خلفته المنظومة الدينية جراء انصهار رجال الدين في الحياة المدنية والسياسية وفقدان المجتمع للمنهل العذب الذي كان يغذيه بالموعظة الحسنة، ويقوّم أخلاقياته وممارسات أفراده، ويحصّنهم بالإيمان وتقوى الله.. وبالتالي فإن ضعف الحصانة الإيمانية جعلت من الشباب على وجه الخصوص صيداً سهلاً لكل دعاة الرذيلة، وكل الثقافات التي تستهدفهم. ومن المؤسف أن ذلك التحول في المنظومة الدينية تولد عنه أيضاً تطاولاً على الدين والحرمان، نظراً لانهيار الأنموذج القدوة في رجل الدين، حيث إن المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها رجل الدين في أوساط الناس كانت مستمدة من أدواره النبيلة في الوعظ والإرشاد وغرس الفضيلة في النفوس، في الوقت الذي تحول في عصر الانفتاح إلى سياسي، وكل ما يشغله هو مؤسسة الدولة وما يدور في أروقة الحكومة ودوائر السياسة، ولم تعد البيئة الاجتماعية والأفراد موضوع اهتمامه.. فرجال الدين اليوم باستثناء فئة صغيرة منهم - يتحدثون عن الفساد والثروات، والديمقراطية وتداول السلطة ولا أحد يتحدث عن فساد الأفراد، وتفكك الأسرة، أو يحدّث الناس عن قصص الصحابة ليتعظوا منها. ومن هنا وجدنا أنفسنا بأمس الحاجة لدعوتهم للعودة إلينا.. فبيوتنا بحاجة إلى علومهم ومواعظهم، ومجتمعنا بحاجة إلى حكمتهم ونصحهم.. فاتركوا السياسة وعودوا لتستثمروا في أبنائنا وتصنعوا منهم رجالاً أخياراً تراهنون عليهم في صلاح المجتمع والدولة وتجنون بهم الأجر عند الله.