حتى ثمانينيات القرن الماضي كان الحديث عن سباق التسلح يشغل المساحة الأكبر من جدليات تلك الحقبة، إلا أن تراجعه عن الصدارة لم يكن فقط وليد البروستريكا وانهيار المنظومة الاشتراكية، بل أيضاً لأن الدول الموصوفة بالامبريالية توصلت إلى اكتشاف السلاح الأشد فتكاً، والأشمل تدميراً، والأرخص تكلفة. فالمقارنة التي أجرتها الدوائر البحثية الأمنية الأمريكية بين موازناتها العسكرية وإنفاقاتها المحتملة للمشاريع التوسعية وبين التكلفة التي يقتضيها السلاح الثقافي، الأشد تدميراً، والحروب التوسعية المرسومة على أساسه، كشفت أن الأخيرة تكلف «81.3» بالمائة من الإنفاق الحالي.. وبالتالي فإنه يعد خياراً أمثل بكل المقاييس الاقتصادية، علاوة على تدني نسب الخسائر البشرية المتوقعة إلى معدلات لاتستحق الذكر. ووجدت تلك الدراسات في برامج تصدير الديمقراطية إلى بلدان للعالم النامي مجالاً أرحب لتسويق أدوات الحرب الثقافية من خلال تمويل برامج تدريبية مكثفة للقاعدة الشبابية تمسخ من خلالها كل القيم والعقائد التي تكسب المجتمع مقوماته الوحدوية، ومثله الأخلاقية.. فكان في مقدمة ما تم استهدافه العقيدة الدينية من خلال ترويج أفكار ونظريات جديدة، والتشجيع على قوانين تتعارض مع التشريع الديني، ودعم كل المشاريع الانفتاحية الثقافية ذات الأطر السلبية، كما هو الحال مع التسهيلات المقدمة للربط الفضائي التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية الغربية، أو تشجيع طباعة مؤلفات معنية بأفكار غير آمنة. وإلى جانب ذلك كله لجأت إلى دعم الحركات المتشددة التي من شأنها تشويه الدين والدفع بالشباب للعزوف عنه بدعوى نبذ التطرف، وتحويل المؤسسات الدينية إلى جهات مشبوهة تستوجب المراقبة والتضييق. كما وجدت الدراسة في دعم الأحزاب السياسية والدينية رهاناً قوياً على الدفع بالمؤسسات الدينية إلى ساحة العمل الحزبي الفئوي سعياً وراء المصالح المادية، ليكون ذلك هو المدخل لإفراغ تلك المؤسسات من محتواها التهذيبي والأخلاقي.. فكان أن توقفت الجوامع والمراكز الدينية عن إلقاء المحاضرات حول الخير والشر، وأعداء الدين، والتكافل الاجتماعي، وحب المؤمن لأخيه، والحقوق الشرعية المختلفة، والمحرمات، والمنكرات، وبات الخطاب كله يدور عن السياسة والمسئولين، وملفات الديمقراطية المختلفة. إن أدوات الحرب الثقافية تبدو غير مكلفة كثيراً، بل تستدعي بضع مئات آلاف الدولارات لتجنيد جيش مدني واسع يعمل بجد من أجل تفكيك المجتمع، ونشر ثقافة بديلة لقيمه وأخلاقياته ومبادئه، حتى بات هناك قطاع عريض من الناس لا يؤمن بالوطنية والسيادة والولاء، ويعتقد أن مستقبله مرهون بتلك الأفكار التي تمطرها منظمات دولية ومحلية، وتذكي بها نزعات العصبية المذهبية والعنصرية المناطقية. أعتقد أن هذه الحرب تستفحل في جميع مجتمعاتنا، وما لم تتحرك القوى الثقافية للمجتمع من أجل مواجهتها فإن المستقبل لا يبشر بخير.