كنت ولا أزال ازعم وأدعي أن الأصوات المنادية بالتغيير من الخارج أو وفقاً لتوصيات الخارج وإن كانت تبدو في ظاهرها براقة إلا أنها في الحقيقة لا تحمل للشعوب إلا المآسي والويلات بما فيها التوصيات والتقارير الخاصة بالحريات وحقوق الإنسان والتنمية المدنية وإلغاء الفوارق على أساس الجذر. صحيح انه لا يمكن قيام مجتمع مدني حديث إلا على تلك المداميك الحضارية الراقية وأن تلك الدول الكبرى قطعت شوطا جبارا لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني المكتوب بفضل جهود مخلصة من فلاسفتها وعلمائها ومفكريها الذين عملوا بكل تفانٍ وإخلاص منذ القرون الوسطى وحملوا على عواتقهم الآم شعوبهم وقاسوا من اجل ذلك ألواناً من التنكيل الاجتماعي والسياسي حتى استطاعوا أن يخلقوا قاعدة جماهيرية واعية في بلدانهم بأهمية التغيير والحداثة والمدنية والمساواة ولم يكن ذلك سهلا أو من خلال التبجح والملاعنات السياسية والاجتماعية في الفضائيات أو مجرد كتابات نارية في الصحافة والمجلات من الغرف المغلقة أو تسول الدعم من أبواب السفارات الأجنبية المتربصة والتخابر الخسيس وتعرية المجتمعات والتكسب باسم قضايا الشعوب. بل كان نضالاً مدنياً فكرياً بنّاءً في سبيل الله والمستضعفين في الأرض من الأقليات والأعراق والرقيق والمضطهدين على أساس الجذر حتى قال فولتير وهو على فراش الموت : (أموت وأنا اعبد الله.. وأحب أصدقائي ولا أكره أعدائي وأرفض الاضطهاد الذي تمارسه المذاهب الدينية ضد بعضها البعض)، وكتب إلى الكونتيسة ماري دوربلموند:( هل تستطيعين أن تخبريني يا سيدتي ما ذنب من لم يسمع بمخلّصنا يسوع؟) تبدو الأفكار متقاربة جداً بين مفكرينا ومفكريهم، الفرق الوحيد أن بعض مفكرينا يتحدثون باسم فولتير والثورة الفرنسية والنهضة الأوروبية بينما هم كانوا يتحدثون باسم الجماهير العريضة وفي مقدمتها الفئات المهمشة والمضطهدة والنخب المثقفة. بعض مفكرينا وكتابنا التنويريين مازالوا يعيشون عقلية المؤلفة قلوبهم فهم يحولون هذه المطالب الأخلاقية والتمدينية - للأسف الشديد- إلى يافطات وأغراض للتكسب والمزايدة والاتجار السياسي والحصول على بعض التسهيلات وربما توفر الإقامة في البلدان المتقدمة، بينما هم كانوا يختلطون بالمآسي والويلات التي تحياها شعوبهم وأمتهم زائداً ما يعانونه بسبب أفكارهم فيخرجون وقد سبروا الأغوار وعرفوا مكامن الداء ومقادير الدواء، فشكر الله سعيهم وخلدهم التاريخ وأصبحت أوروبا اليوم تدين لهم بنهضتها المعاصرة وتماثيلهم تملأ شوارعها. غير أن من يرفعون هذه الشعارات اليوم في تلك البلدان كطعم سياسي لبعض المراهقين العرب إنما يرفعونها من باب التصيد و التغرير ببعض الطامحين إلى التغيير ولو للأسوأ والمتطلعين لأوهام مدنية ولو كانت قشرية مستوردة ولو دفعوا أوطانهم ثمنا لذلك ممن تنقصهم الخبرة الفكرية والأخلاقية والتربية الوطنية الرشيدة، وبالتالي استجلاب المزيد من العملاء والمخبرين والناقمين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لاختراق الحضارات والمجتمعات من خلال ترويج هذه الشعارات بدليل أنهم – أي معظم المؤسسات الغربية- أكثر التصاقاً وتحالفاً مع المؤسسات التقليدية والكهنوتية الرافضة لمجرد الحديث عن المدنية والحداثة والحريات والمساواة في الوطن العربي وما يسمى بالشرق الأوسط. ألا ترى أن الكثير من التقارير والمسوحات والاستطلاعات الصحفية وما تسمى بالدراسات المحلية والإقليمية قد تحولت إلى ما يشبه الملفات الأمنية والمحاضر الاستخباراتية ؟ التغيير الحداثى والمدني لا بد وان ينبع من داخل المجتمعات وعندما يصبح مطلبا جماهيريا ملحّا لا تمتلك المؤسسات الرسمية حياله إلا الاستجابة للمطالب العامة. أما عندما يكون الوعي الرسمي والنخبوي فوق مستوى الوعي الجماهيري والشعبي إلى درجة أن الحكومة تستجدي البرلمان أكثر من ثلاث مرات خلال سنتين تعديل قضيتين بديهيتين في قانون الأحوال الشخصية والعقوبات أضحكت علينا المجتمعات البشرية وأظهرت اليمنيين الذين وقعوا أكثر من اتفاقية دولية ملزمة بهذا الخصوص على أنهم “ كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم”، فيرفض البرلمان أو لجنته المتخصصة - للأسف الشديد- مجرد الخوض في هاتين المسألتين بحجة القانون القُرشي القديم الذي ينص على «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون» هذا هو الفرق بين نهضتنا الوليدة ونهضتهم التليدة . ففي تلك البلدان كانت الحكومات ترفض برامج الحداثة والمدنية فترفع الجماهير أصواتها لتجبر المؤسسات الرسمية على التراجع بينما عندنا مازالت القاعدة الجماهيرية العريضة تنظر إلى الجديد نظرة الريبة والخوف نتيجة ضعف الوعي الاجتماعي والمدني فتستغل القوى التقليدية هذه الثغرات الفكرية للتسلل منها إلى تنفيذ مشاريعها الماضوية عن طريق وسائل الحداثة كالديمقراطية والاستفتاء وحرية التعبير. وهنا يذهب البعض كأدونيس إلى عدم جدوائية الديمقراطية في المجتمعات النامية خصوصا العربية بسبب احتمالية استغلالها استغلالا سيئا من قبل البعض لخدمة المشاريع المتخلفة والمستبدة أو توظيفها عنصريا وطائفيا ومذهبيا وهذا ما يحصل فعلا وليس من حل إلا تأهيل الرأي العام ليكون قادرا على اتخاذ القرار بعيدا عن المؤثرات التقليدية وهي معركتنا الحقيقية مع القوى التقليدية، وإما استجداء الخارج والاستقواء بمؤسساته المغرضة فهو نوع من تعزيز التخلف وإطالة العمر الافتراضي للمؤسسات التقليدية الآيلة للسقوط وذلك لأن التغيير عندما ينبع من الداخل عبر النقد البناء وبالوسائل العلمية المدروسة والمشروعة ينطلق من مناعة الأمة الحضارية تلقائية التحديث ويضع في حساباته أولاً مصلحة الأرض التي يقف عليها والناس الذين يشاركونه المصير وبالتالي تكون عمليات التغيير والهدم والبناء والتطوير وفقا للإحداثيات الحضارية والفلسفية التي يعرفها جيدا نقاد وفلاسفة الداخل هذا أولاً، أما ثانياً فلأن الإصلاح من الداخل يعرف جيدا مكامن الأخطاء ودرجة الانحراف الحضاري لكل مسألة خاطئة وما ينبغي إصلاحه أولاً فيحدث التغيير الايجابي دون أضرار حضارية أو أخلاقية تنعكس على الهوية والقيم ولا تسلخ الأمم عن تقاليدها وخصائصها الايجابية ولا يحدث التعارض الموهوم بين القيم والتقدم. وأما التغيير من الخارج فإضافة إلى أن عند القائمين عليه أجندة سياسية معينة تضع مصالحها وطموحاتها في المرتبة الأولى فإن لديه أيضاً الكثير من المعلومات المغلوطة والمزيفة والمصحفة عن كثير من القيم والتقاليد والأحكام ولا يمتلك الإحداثيات الدقيقة عن مكامن الاختلالات والأخطاء فتراهم يعالجون النتائج ويتجاهلون الأسباب، أو يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على مسألة سطحية جدا ويتجاهلون الطامات التي تتولد منها السلبيات، أو يقومون بنسف كامل للبنية الأخلاقية والحضارية للأمة نسفا شاملا على طريقة الأرض المحروقة، أو يحاولون بتر الأخطاء والتكلسات التي أصبحت أجزاء عضوية من مكونات الحضارة والحياة دون تخدير جراحي وباستخدام الساطور بدلاً من المبضع فتسمع الصراخ الحضاري والفكري هنا وهناك حتى يختلط على الناس هل ينتمي هؤلاء النقاد لفئة الجراحين أم الجزارين؟، أو يدخلون برامج التغيير الحداثية والمدنية مشبعة بفيروسات سياسية أو تبشيرية أو تطبيعية تثير المناعة الثقافية والفكرية في الأمة الواحدة فيحدث الصدام الذاتي كما يجري اليوم في العراق، بينما التغيير من الداخل لأنه يرتبط أساساً بالنقد الذاتي وهو برنامج أساسي في كل حضارة للتحديث الحضاري وحذف الملفات القديمة والتالفة تلقائيا من خلال النقاد والمفكرين والفلاسفة والكتاب والصحافة الحرة والرأي والرأي الآخر في الأمة الواحدة أو الشعب الواحد شريطة أن لا يكون هؤلاء قد تحولوا إلى أدوات لتنفيذ أجندة الخارج فكلما تطورت حركة النقد في مختلف الميادين اتسعت دائرة التغيير واشتدت وتيرة البناء والتنمية ولهذا يقول كارل ماركس: «النقد أساس التقدم» والقرآن يؤكد هذه الحقيقة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والنقد الذاتي أو التلاوم والجدل من أهم وسائل التغيير والأصوليون المسلمون أكدوا أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فإذا أرادت الأمة العربية أن تقلص نشاطات نقاد الخارج المشبوهة وأذنابهم في الداخل فعليها أولاً توسيع صدرها لفلاسفة الداخل ونقاده وإقامة الحوار المثمر معهم في إطار القانون المدني لا العرف السائد ومنع المؤسسات القمعية تحت أي مسمى من المسميات من كبتهم فالنقد لا خوف منه لأنه يصلح بعضه بعضا وكلما كثر صلح وأصبح أجدى وكلما زاد النقاد احترموا نقدهم وطوروا منهجياتهم الموضوعية في النقد والبناء ما لم تؤثر عليهم أقذار الخارج بأطماعه ومخططاته. قد نستفيد من نقد الخارج عندما يقوم بدور المخبري فيشخص الداء تشخيصا أولياً بينما يحلل نقاد الداخل وفلاسفته الداء ويضعون تقاريرهم النهائية أمام الرأي العام والمعنيين وصناع القرار لوصف الدواء، وشهر مبارك وكل عام وأنتم بخير.