هل يمكن أن تبنى الديمقراطية والحداثة في ظل الفقر والأمية والتبعية وقمع الحريات وغياب المواطنة والمساواة والعدالة؟ ثم هل تستطيع النماذج الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية الغربية الجاهزة والتقليدية أن تستورد وتغرس وتنجح في تربة ثقافات مختلفة عن ثقافات المجتمعات الرأسمالية؟ وهل يمكن أن يؤدي الاستيراد الأعمى إلى تدمير هويات مجتمعاتنا التي لها أساليب إنتاج دخيلة على الرأسمالية ولا تملك البنيات التحتية التي تتجانس معها؟ فما هي هذه الديمقراطية، وما هذه الحداثة اللتان كثر السجال حولهما في السنوات الأخيرة؟ للتعامل مع هذه الأسئلة المعقدة ينبغي علينا أن نرسم خريطة دقيقة لواقع بلداننا، الثقافي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والسياسي، لأن هذه البنيات هي الشروط القاعدية الضرورية للديمقراطية والحداثة؛ ويعتبر غيابها أيضا بمثابة العراقيل التي تحول دون تحققها في الواقع الملموس. لنبدأ بقراءة تضاريس هذا الواقع كما هو وبدون أي تحريف أو تزيف، وذلك من أجل معرفة مكونات وتشكيل الأرضية التي نقف عليها بموضوعية. هذه المقاربة التي أسلكها لا تدعي الكمال وليست سوى محاولة للتفكير في بعض الأسس التي تحتاج حقا إلى دراسات أكثر عمقا وتخصصا. في مفهوم الأزمة تعتبر بلداننا من دول الأطراف التي تتحكم فيها الأزمات المعقدة والمركبة وعلى جميع المستويات والهياكل. من المتعارف عليه أيضا أن مرحلة الكولونيالية التي انتهت شكليا على نحو نسبي فقط لم تنته كمحتوى، وهي تعد من أمهات الأزمات التي تكبل مجتمعاتنا. من هنا فلا بد من التمييز بين الأزمة والمشكل أو العوائق. فالأزمة كمفهوم هي عجز بنية معينة، أو بنيات محددة- سواء كانت فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو عقائدية أو كلها- على أن تعمل في انسجام وتضافر وتكامل. ربما يكون هذا العجز يمس جزءا عضويا من هذه البنية أو تلك البنيات جميعا. هنا ينبغي علينا أن نحدد ماهية الأزمة. هنالك من يعرف الأزمة بأنها تنشأ عن عدم تجانس النظرية مع آليات الممارسة في ميدان العمل. وهكذا فإن الخروج من الأزمة يستدعي دراسة وإدراك العلل التي تصيب جميع مكونات البنية أو عنصر من عناصرها، ومن ثم تأتي مرحلة الفرز والتغيير بعنصر بديل أو ببنيات بديلة لتحل محلها، وبخلاف ذلك فإن الأزمة تبقى قائمة في مكانها وإن الترقيع الشكلي لن يجدي نفعا بل نجده يعقد الأمور بصورة أكثر. فالأزمة تتربع على العرش عندما لا يطرح مجتمع ما أو فرد ما المشكل لإيجاد حل له. والأدهى والأمر أن الأزمة تتضاعف بقوة عندما يتم إنكار وجود خلل عام في تركيبة البنيات القائمة في النسيج الاجتماعي العام. من المعروف أن البنيات المكونة لظاهرة ما، لا تقف بعيدة عن الأخرى، وبالعكس فإنها تتبادل التأثير وتؤثر في بعضها البعض. في هذا السياق فإن فشلنا في إنجاز الديمقراطية والحداثة النوعية ببلداننا بالشكل المرغوب والمطلوب يعود أساسا إلى عدم وجود تصور فكري مسلح بمنهج علمي، وإلى غياب أسس مادية ومؤسسات فاعلة وثقافة متطورة وتقدمية في المجتمع المدني، وفي هرم الحكم ببلداننا. وهكذا فإن الانتقال الحاسم من بنيات متخلفة ماديا ورمزيا وسياسيا، وعاطلة اقتصاديا مشروط أولا وقبل كل شيء بإحداث تغيير وتحويل جذريين في البنيات المادية والفكرية والثقافية والنفسية والروحية وفي العادات والسلوك. وفي الواقع فإن بلداننا لم تفعل شيئا من هذا القبيل، وفي الوقت نفسه فإنها لم تطرح بصراحة وأمام الملأ المشكلات الكبرى التي تنتظر الحلول الراديكالية. إنني أؤمن إيمانا عميقا بأن التخلف السياسي أو الفكري أو الاقتصادي الذي يتحكم في رقابنا هو نتاج لعدم مساءلتنا النقدية للبنيات العاطلة في هياكلنا الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو العائلية وهلم جرا، وهي نتاج أيضا لذلك الفكر الانتقائي الذي يكتفي بالتشخيص غير العلمي للخلل بداخل البنية الكلية وبالاستغراق طويلا في الترقيع الشكلي والفصل بشكل التعسفي بين العناصر المكونة للبنية العميقة لظاهرة الأزمة. هذا ما يحدث بالضبط في حياتنا التي يتحكم فيها الفكر المحافظ السائد. نظرا لذلك فإن الخطوة الأولى والضرورية على طريق تجاوز هذا النمط من الفكر المتخلف عندنا تتمثل في اعتقادي في إعادة النظر تحليليا ونقديا في مفهوم وواقع الأزمة المركبة وفي الأشكال الثقافية التي تنتج التخلف بكل أشكاله ومضامينه في بلداننا. لا شك أنه بدون ذلك فإننا سنبقى نعيد إنتاج أنماط التخلف بطرق مختلفة تكون غالبا بدون وعي، وبالنتيجة نبقى ندور في فلك تسيير الأزمة دون قلعها من جذورها. سأعطي هنا مثالا للبنية الرجعية والبالية التي لم نقدر أن نحطمها دفعة واحدة، ألا وهي العائلة التقليدية والمتمثلة في تقاليد تهميش المرأة. فالمرأة في مجتمعاتنا غير مستقلة بداخل المسرح الاقتصادي وهي لا تملك الحق في القرار بخصوص حياتها وخياراتها الخاصة بها. شروط تأسيس ثقافة المواطنة نحن نعرف أن ثروة المجتمع مصدرها القوة المؤهلة للعمل، وتمثل النساء نسبة كبيرة من هذه القوة المعطلة بنسب معتبرة مع الأسف. وبسبب هذا الإقصاء لكلية القوة النسوية العاملة نفقد رهان الإنتاج كما ونوعا، ويتم جراء ذلك تهميش الطاقات وفرض قيم وسلطة الرجال وتكريس ظاهرة الإقصاء. وهكذا تغيب النساء من الفعل الاقتصادي- الاجتماعي مسبقا، الأمر الذي يغرق مجتمعاتنا في ظلمات الفقر ومناخ تضييع فرص النهضة والتقدم والمساواة والعدالة. في الواقع فإن هذه البنية العائلية المختلة هي نتاج الثقافة التقليدية المكرسة لقرون من الزمن والتي شكلت وما تزال تشكل وعينا ولا وعينا الفردي والجماعي والسياسات المطبقة. ومن هنا فالتغيير ينبغي أن يطال البنية الثقافية والمادية معا كشرط لتحرير المجتمع ككل ولبناء المواطنة الحديثة، وبدون تحقيق هذه المهمة الأساسية فالأزمة تبقى مستمرة في مجتمعاتنا. وفي الواقع فإن هذه البنية العائلية التي تخضع فيها السلطة المادية والرمزية لتوزيع غير عادل هي التي تفرز البنيات الاقتصادية المأزومة والركود الثقافي والانحطاط الاجتماعي والتخلف السياسي والانحراف في الأخلاقيات، أي الأزمة المركبة وشتى أشكال الديكتاتورية في مجتمعاتنا. وهكذا فإنه بالإبقاء على هذه الأوضاع السلبية، فضلا عن انتشار الأمية والجهل والأمراض الطائفية والفساد الإداري والاقتصادي، وتكريس الديمقراطية والتفاوت في الدخل، والمحسوبية والعشائرية وعدم فك الارتباط بالموروث الخرافي والكولونيالي وغيرها من الأمراض الفتاكة فإن التحدث عن التحويل الديمقراطي عندنا هو مجرد قفز بالمظلات وشعارات لا تجد طريقها إلى الممارسة المؤسسة على النظرية المنبثقة من القراءة الصحيحة لواقعنا. في هذا السياق نرى أن النقاش الدائر في أوساط المحسوبين على الثقافة والفكر والسياسة حول الديمقراطية والحداثة يبدو للعيان بأنه غير جدي ويتميز بالانفعال وليس الفعل، وتقليد المفاهيم المستوردة بدلا من صنعها بقوة الفكر النابع من التجربة الخاصة. إن هذا الحكم لا يعني أبدا الدعوة إلى عدم استيعاب وفهم المفاهيم التي أسسها ويؤسسها المفكرون في العالم بأسره. إن التفتح في هذا المجال ضروري ولكنه ينبغي أن لا نعتبر تلك المفاهيم معايير نهائية وصالحة لكل زمان ومكان. إنه من حقنا أن ندرس حصيلة الأبحاث والمناقشات بخصوص الحداثة والديمقراطية في الفكر الغربي. وهنا فإنني سأنظر قليلا في النقاش الذي يجريه عالم الاجتماع البريطاني أنثوني غيدنز، المعروف بأنه من مهندسي الطريق الثالث في الفكر السياسي المعاصر. كيف يفهم هذا المفكر الحداثة والديمقراطية. ثم كيف يتصور العلاقة بينهما في إطار نظرية العالم الثالث التي يدافع عنها؟. في البداية أقدم تعريف غيدنز للحداثة، كما جاء في كتابه نتائج الحداثة، حيث يرى بأنها تتمثل في "أشكال الحياة الاجتماعية أو التنظيم الاجتماعي الذي انبعث في أوروبا بدءا من القرن السابع عشر فصاعدا، والذي أصبح فيما بعد مؤثرا بشكل تقريبي على المستوى العالمي". ونفهم من هذا التعريف أن أنثوني غيدنز يموقع ظاهرة الحداثة زمانيا ومكانيا، ولذلك فهو يحدد الحداثة بأنها متمركزة ذاتيا في أوروبا. وهكذا يستثني أشكال الحداثات في الفضاءات غير الأوروبية- الغربية ويغيبها وينكر عليها أي إسهام في التمهيد لنشأة مفهوم الحداثة ذاته أو في مقاومة بعض النتائج السلبية للحداثة الغربية مثل الاستعمار، واستخدام التقنية استخداما غير سلمي، وفي نقد مجموعة من السرديات الكبرى التي بنيت عليها هذه الحداثة مثل مفهوم التاريخ المتمركز غربيا، وفكرة التقدم التي استعملت من طرف القوى الرأسمالية الغربية لترسيخ إيديولوجية التفوق العرقي للإنسان الأبيض واعتباره حامل رسالة إدخال الشعوب الأخرى في الحضارة؛ حيث وظف ذلك كقناع لنهب ثرواتها وهم جرا. إنه من الواضح أن هذا النقد وهذه المقاومة قد تعرضا للطمس في المرحلة المدعوة بمرحلة ما بعد الكولونيالية المتميزة بتقليد المراكز الاستعمارية سابقا، وعدم فك الارتباط معها في كثير من الجوانب الحساسة التي لعبت وما تزال تلعب أدوارا سلبية في نسيج مجتمعاتنا. من مظاهر التبعية وهكذا فإننا في العالم الثالث قد استوردنا المظاهر الشكلية للتصنيع الحداثي الغربي الأوروبي، وكذلك وسائل الرقابة والضبط الاجتماعي، كما استوردنا قشور الرأسمالية باعتبارها بعدا من أبعاد الحداثة الأوروبية- الغربية بدون أن يكون لنا رأسمال يتمتع بالسيادة الوطنية، كما أننا شكلنا أجهزة الأمن والعسكر وبعض الأحزاب وفقا للنموذج الذي فصلته وحددته الحداثة الأوروبية بشكل مشوه. وبالإضافة إلى ذلك فإن بلداننا لم تقم أي حوار نقدي مع النتائج الأخلاقية التي تترتب على هذه المسائل والوسائل المستوردة، ولم ندرس بعمق مدى ملاءمتها لنا إجرائيا وأخلاقيا. من مخاطر هذا الاستيراد عدم فهم وإدراك الشروط الفلسفية والتاريخية والعلمية والسياسية التي كانت القوة التي أبدعتها في داخل الجغرافيا الأوروبية- الغربية. وهكذا فهمنا التعددية الحزبية التي هي ثمرة من ثمار الحداثة الغربية فهما مقلوبا حيث أعطينا لها محتوى مضادا يتمثل في الطائفية أو العشائرية، أو الشللية. من الناحية المادية فقد تعاملنا مع الحداثة تعاملا معكوسا واختزلناها في الماديات ووسائل الاستهلاك والترفيه، أما في السياسة فإننا قد لخصناها في الحكم الفردي والمركزي. وفضلا عن ذلك فإننا لم نجتهد في إنجاز التنمية المتطورة بما في ذلك تنمية الإنسان كرأسمال جوهري كما حدث لدينا العجز في توزيع المعرفة العصرية الأكثر تقدما، والثروة على نحوعادل. بالإضافة إلى ذلك فإن هناك تقصيرا ملحوظا في الإخفاق في مجال بناء المؤسسات الضامنة لحقوق الإنسان وجعل المواطنة والمجتمع المدني أساسا للبناء الاجتماعي والسياسي العقلاني والحديث، والديمقراطي في بلداننا.