انطلق أفراد المجتمع اليمني في سباق محموم سعياً وراء الغنى والثروة، وقد سلكوا في ذلك وسائل شتى بعضها مشروع وبعضها الآخر غير مشروع.. وفي غمار هذا السباق المحموم تغيرت القيم الاجتماعية.. بعض هذه التغيرات كانت إيجابية حيث دعمت الحافز الفردي وفتحت باب المغامرة المحسوبة، غير أن هناك تغيرات سلبية أهمها غياب الانتماء وشيوع السلبية واللا مبالاة والأنانية والتحايل على النظام والقانون والتركيز على المصالح الشخصية وعدم الاهتمام بحقوق الآخرين. وكان العقل هو الخاسر الوحيد؛ لأن الجميع أهملوا العقل حتى أضحى العنف سبيلاً للسيطرة الكاملة على حقوق الآخرين، وفضلت بعض القوى اللجوء إلى الجحور وحولت الحياة إلى ظلام ورعب. لقد ضاعت على اليمنيين سنوات طويلة تبددت خلالها طاقات هائلة بسبب الصراع الذي حاولت بعض القوى الدينية أن تجعله صراعاً بين الدين والعقل.. الأمر الذي أسس لفهم خاطئ وصراعات مفتعلة انتهت في نهاية المطاف بالتحالف كما هو قائم اليوم بين الإصلاح والاشتراكي اللذين خاضا صراعاً تدميرياً أهلك النسل والحرث منذ السبعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة ليكتشفا بعد ذلك أن فضيلة الحوار كفيلة في إزالة مناطق الالتباس بينهما. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم لماذا لا يتحرك من يزعمون أنهم يمثلون الدين من منطلق الحوار العلمي وتبادل الأفكار، أليس هذا أرقى وأنفع لكل الأطراف بعيداً عن الفتن والحروب؟ لاشك أن غياب العقل وكذلك العقلاء قد خلق مشكلة كبرى يتحتم على القوى المستندة أن تؤكد دور العقل بوصفه المصدر الأول للمعرفة والسلوك والتقدم الذي نصبو إليه ونحلم به. عندما غاب العقل عشقنا العشوائية والخرافة والفهم الخاطئ، وأظن أن العقل اليمني أصبح كالزائدة الدودية فقد غاب عن التخطيط حتى أننا لم نعد في كثير من حياتنا ننظر إلى المستقبل، بل ننظر تحت أقدامنا.. فلننظر إلى شوارعنا التي تعاني الانحناءات والتقوسات والمطبات المصطنعة وكذلك المباني المشوهة وعشوائية البناء. إن ما نلحظه اليوم على أمور حياتنا يؤكد أن حال العقل اليمني تستوجب القلق، بل تستأهل الفزع، يكفي أن نتابع صمت المعارضة عما يجري في صعدة وفي بعض مناطق المحافظات.. وبالمثل يكفي أن نرى إلى أولئك البعض الذين يجعلون من السلطة مظلة لهم كيف أنهم يمارسون الفساد في مختلف مجالات الحياة، فلا أمل في كهرباء ولا أمل في ماء ولا تخطيط ولا مدن حضرية ولا صحة ولا تعليم، كل شيء بالبركة ولا مجال للعقل ولا للحكمة. وليس من شك أن الحديث عن التعليم والصناعة والزراعة والصحة يفضي بنا إلى أهمية مناقشة حالة العقل اليمني وتضخم الفساد.. إن التوقف أمام حالة الفساد التي أصابت الحياة في اليمن كافٍ لكشف فداحة ما آل إليه حال العقل اليمني. ومما سبق نجد أن الحياة الاجتماعية قد تفشت فيها اضطرابات نفسية لأسباب تتعلق بما سبق الحديث عنه، ولا يمكن لأحد أن ينكر أن أغلب المجتمع أصبح يعاني اضطرابات نفسية بسبب الترويج لسنوات طويلة لأفكار ومعتقدات سياسية وفكرية تكرس الفراغ الوطني وتعمق الخواء الفكري وتبتعد بالمواطن اليمني تدريجياً وربما دون أن يدري عن الولاء الوطني، الأمر الذي يساعد على المزيد من التفكك الوطني واستمرار السير على طريق الولاءات العصبية والمناطقية الضيقة والمذهبية المدمرة في ظل الإحساس بغياب القدوة وتغييب الأهداف النبيلة والشعور بعدم جدوى الطموح المشروع. لقد كرست الأحزاب السياسية وبعض الجماعات الفكرية وخاصة تلك الجماعات التي لا تقبل بالتعايش مع الآخر واقعاً محبطاً دفع بالمجتمع نحو العنف. إن ما حدث في 22 مايو 90 قد أحدث طفرة حضارية في مجتمع متخلف لم تستطع القوى السياسية استيعابه، حيث جاءت الديمقراطية التي أفرزت متغيرات كثيرة أثرت على مفهوم العلاقات السياسية وأدت إلى تباعد في مفاهيم العلاقات والقبول بالآخر، وجعلت الكثير من الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية الأخرى تفضل العيش في عزلة نفسية وانطواء سياسي واجتماعي والبعض حاول التمرد على الواقع بسلوكيات العنف. والحقيقة أن الاضطرابات النفسية التي يعانيها الوسط السياسي والاجتماعي تعد امتداداً غير طبيعي وغير صحي للممارسات الحزبية والقبلية الخاطئة. لقد أصبحت حياتنا تقوم على الانفعالات المتباينة والأفكار المتضاربة، حيث تتحول بين عشية وضحاها من حالة طبيعية إلى حالة مرضية حينما تتغير كماً وكيفاً.. فالحزب الاشتراكي يتحالف مع المؤتمر ثم تنفض الشراكة ليحل حزب الإصلاح شريكاً للمؤتمر فتنفض الشراكة أيضاً ليشكلا بعد ذلك «الإصلاح والاشتراكي» تحالفاً يبدو أنهما يعيشان في الوقت الراهن حالة اكتئاب أصابت السلام الداخلي بمقتل. وفي ظل غياب العقل غابت التنمية ولم نسمع من يتحدث عن الاقتصاد على الإطلاق، فكل حديث الأحزاب والأفراد والجماعات عن السياسة بعيد عن المعرفة الحقيقية لعلم السياسة،مع العلم أن العالم كله يتحدث عن الاقتصاد وعن الركود وعن أزمة الغذاء وأزمة المياه وأنفلونزا الخنازير ونحن نعتلف القات. ثم نخوض في السياسة في مجالس القات بمزاج غاضب حتى صار هذا المزاج عنواناً لسلوكنا في الشارع وفي حياتنا اليومية. إن غياب العقل والعقلاء أفرز مثل هذه الأجواء السياسية والاجتماعية الملتبسة والأزمات الاقتصادية الخانقة والحروب الطاحنة.