يعد ملف التعليم من أخطر وأهم الملفات المتعلقة بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. ولست أتجاوز حق الاجتهاد إذا قلت إن المؤتمر الثالث الذي عقدته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تحت عنوان «تحديات جودة التعليم العالي والاعتماد الأكاديمي في دول العالم الثالث 11 13 أكتوبر 2009م» قد جاء خارج السياق؛ لأن الوزارة مازالت حتى يومنا هذا لا تملك قانوناً ينظم عمل الوزارة وعلاقتها بالجامعات الحكومية والجامعات الخاصة، إضافة إلى أن المؤتمر أنفق عليه مبالغ كبيرة، كان يمكن إنفاق هذه الأموال على الاشتراكات والدوريات والمجلات العلمية والإنسانية والتي تفتقد إليها المكتبات الجامعية في بلادنا. وقبل الشروع في الحديث عليّ أن أوضح فكرة جودة التعليم، لقد تأسست وكالة ضمان الجودة عام 1997م لتأمين خدمات ضمان جودة مستقلة ومتكاملة للتعليم العالي في بريطانيا، والوكالة مستقلة عن الحكومة البريطانية ويتم تمويل وكالة ضمان الجودة عن طريق العقود المبرمة مع مجالس تمويل التعليم العالي، ومن خلال الاشتراكات التي تدفعها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وتتحمل هذه الوكالة مسئولية ضمان الجودة من خلال الحكم على مدى كفاءة الجامعات والمعاهد في الوفاء بالتزاماتها.. وهذه المعايير منها ما يتعلق بالطلاب ومنها ما يتعلق بالبنية التحتية ومنها ما يتعلق بالأساتذة والبحث العلمي والمنهج واستخدام التقنيات الحديثة وغير ذلك.. والتعليم الجامعي في بلادنا أصبح نعمة مختلطة بالسوء، في التسعينيات وما بعدها كان هناك نمو غير مسبوق في مجال التعليم العالي وبالأخص في الجامعات التابعة للدولة. انبثقت المنشآت الجامعية في كل مكان، وتحولت كليات التربية في المحافظات إلى جامعات مستقلة عن جامعة صنعاء، في ظل ذلك كنا نتوقع أن تزدهر الجامعات، لكن التعليم الجامعي في اليمن أصبح منظومة متمددة وأخطبوطاً يملك العديد من الأطراف التي يبدو أنها تفتقر إلى التنسيق، لذلك أصبحت مخرجاته تومض بوهن مثل السراب أصبحت الجامعة في بلادنا مؤسسة غير طبيعية، تضم هياكل متعددة تتسم مبادئها في الإدارة بالغموض لجميع الخارجين عن إطارها، وتتبع قوانينها وتقاليدها الخاصة بها التي تبدو غير قابلة للنقد، لأنها وبكل تناقضاتها تمثل ما تراه الحكومة في العموم أعلى طموحاتها. في الوقت الذي لايزال أغلب الناس يظنون أن التعليم الجامعي هو المهمة الجوهرية للكليات والجامعات، إلا أن الكليات الإنسانية والمعنية باللغات وحوار الثقافات والتنوير داخل البلاد فقد تحولت إلى وكر للأفكار التقليدية والسلفية، يظهر ذلك من خلال الزي الموحد بين الطلاب والأساتذة.. أما ما يسمى بالجامعات الخاصة فإنها تشكل تهديداً حقيقياً للأمن القومي. هناك العشرات من الشقق التي تسمى جامعات تمنح شهادات جامعية.. هذه الشقق علقت أمام كل غرفة لوحة تقول: هذه كلية الهندسة، وهذه الغرفة كلية العلوم، وتلك الغرفة كلية التجارة والاقتصاد ...إلخ. والأدهى من ذلك انه لا توجد معايير لمحاسبة هذه الشقق التي تدعي أنها جامعات.. وهناك تصريحات كثيرة أدلى بها الدكتور صالح باصرة وزير التعليم العالي حول عدم مشروعية هذه الجامعات، إلا أننا نجده يحضر احتفالات تخرج في بعض هذه الجامعات مما يعطي مشروعية لها، والأدهى والأمر أن بعض هذه الجامعات قد أُشركت في دعم المؤتمر، حيث قدمت بعض الوجبات لأعضاء المؤتمر بما يعني الاعتراف الضمني لها. بل إنني أقول استناداً للواقع هناك جامعة تقوم على أساس ديني ورئيسها يسمي نفسه الشيخ الدكتور مع العلم أن معايير الجودة ليس في قاموسها مثل هذه التسمية، وتزعم هذه الجامعة وعلى لسان شيخها أنها تقوم بأبحاث علمية تحت مسمى الطب النبوي ولم نسمع أو نقرأ بأن الرسول عليه الصلاة والسلام ادعى أنه طبيب.. يزعم هذا الشيخ الدكتور أنه اكتشف علاجاً لانفلونزا الخنازير وهو يراهن على ذاكرة الشعب المضروبة وعلى ذاكرة المسئولين المعطوبة، لأنه لم ينجز بعد علاج الإيدز.. والأدهى أنه فجر قنبلة مفادها أنه اكتشف علاجاً لمرض القلب يفيد العضلات الضعيفة بدون إجراء عملية جراحية.. لا نقول إلا كما قال القرآن: «فاستخف قومه فأطاعوه». وهنا أطالب وزارة التعليم العالي أن تُخضع هذه الجامعات لشروط ومعايير وكالة ضمان الجودة وتُطبق تلك المعايير عليها أو تستقيل الوزارة. أعود للجامعات الحكومية وأقول إنها أصبحت شبيهة ببعضها وزادت مسألة الترادف وتلاشت مسائل مثل التميز في المهمة والمنهاج.. هناك دلائل مزعجة، فالكثير من الطلبة الحائزين على شهادات جامعية لا يجيدون في الحقيقة مهارات القراءة والكتابة وأسلوب التفكير الذي نتوقعه من خريجي الجامعات. ينبغي أن تُوضع الإصلاحات الجامعية في مقدمة الأجندة الوطنية، ولابد من تحديث إدارة الجامعات وتنسيق المناهج التعليمية والتوجه نحو مصادر دخل جديدة ومفتوحة. أصبح التعليم الجامعي عبارة عن قطاع متضخم، فالجامعات تقدم تعليماً متوسط الجودة في أفضل الأحوال.. منشآت فقيرة وتعليم هزيل، ولا يوجد نظام محاسبة.. إنه تعليم كاريكاتوري. إضافة إلى ذلك أصبح التعليم مسيّساً، فالأحزاب تتنافس على استقطاب الطلاب والمدرسين، وتحولت كثير من الكليات إلى كليات ذات لون واحد في الملبس والحركة والخطاب، كل ذلك يزرع تعليماً فاشلاً وثقافة تقليدية تحارب ثقافة التنوير والتحديث. أخيراً يمكن القول إن اليمن بلد يتمتع بإمكانات هائلة وتمتلك عدداً كبيراً من الشباب الموهوبين المتلهفين للحصول على تعليم وعلى فرصة للمشاركة في العملية الاقتصادية القائمة على المعرفة. ومع ذلك وللاستفادة من هذه الإمكانات لابد أن يصدر قانون التعليم العالي حتى تستطيع الوزارة أن تتخذ الخطوات الضرورية. ولاشك أن وزارة التعليم العالي ممثلة بالوزير ونائبه الدكتور محمد مطهر والوكيل الدكتور عبدالكريم الروضي ليسوا غافلين تماماً عن الحالة الرهيبة التي يوجد عليها نظام التعليم الجامعي. نحتاج فقط إلى قرارات شجاعة وسريعة في إغلاق التعليم الخاص حتى تبني لها هذه الجامعات مباني خاصة ومؤهلة للتعليم الجامعي؟!