يتنامى إحساس البشرية بأن العالم بلغ «سن اليأس»ولم يعد قادراً على إنجاب رموز سياسية كتلك التي مازلنا نتداول مآثرها الفكرية، ونتغزل بإنجازها، ومواقفها، ومهاراتها في صنع تاريخ شعوبها وتغيير ملامح الحياة.. فثمة اعتقاد قائم بأن عصر السياسة انتهى، ولم يعد للسياسيين أية وجود في حياة البشرية، لذلك يغرق العالم بالأزمات، ولا أمل في جديد غير أزمة جديدة. فمع أن السياسة فكر وثقافة وعلم تتطلب كثيراً من الحكمة والمهارات الذاتية، لكن حجم الأخطاء التي ترتكبها الأنظمة ومختلف القوى السياسية تؤكد أن العمل الوطني أصبح مفرغاً من قيمه الأخلاقية والإنسانية، والإدراكية، وصار محكوماً بالفوضى والاجتهادات والمصالح المحدودة التي تتجاوز مصالح شعوبها، ومستقبل أجيالها. في هذا العصر ليس أمامنا غير التسليم لمفاجآت السياسة المثيرة للكثير من الضحك.. فالأحزاب والسياسيون «المفخخون» يملأون الأرض.. وقد يفاجأ أحدنا أنه بعد حوار طويل مع أحد قيادات حزب قومي يكتشف أنه يتبنى مشروعاً انفصالياً لتشطير بلده إلى أربع أو خمس دويلات، في الوقت الذي تغرق أدبياته السياسية بشعارات الوحدة العربية، والأمة الواحدة، ومشاريع النضال القومي. كما قد يفاجأ المرء أن هذا الحزب «الإسلامي» الناطق بلسان الكتاب والسنة، والمستحوذ على كل منابر المساجد هو من يقود الفتنة، ويستدعي النصارى لاحتلال بلده، وهو من يحمي دعاة الرذيلة والتخريب، ويدافع عن أعمالهم الإجرامية، بل مستعد للتحالف مع الشيطان من أجل الوصول إلى السلطة. وربما تصعقك المفاجأة حين تكتشف أن هذا القيادي الاشتراكي الذي يتحدث عن التقدمية والليبرالية يرتمي بأحضان القوى الرجعية، والمتشددين، ويسلّم رقبته لشيخ قبيلة بالكاد يكتب اسمه، في الوقت الذي تجد أدبياته السياسية على العكس من ذلك تماماً، وان كل ما يقوم به الآن هو مدرج ضمن الأهداف التي يسعى حزبه لمكافحتها. مفاجآت كثيرة تكشف عن أحزاب «مفخخة» وسياسيين «مفخخين» لا يحملون من الفكر السياسي سوى أسماء تنظيماتهم.. فاليوم قد ينتمي المرء إلى حزب ليبرالي لكنه في النهاية يمنح صوته الانتخابي إلى أحد مشائخ القبائل أو أحد المتشددين بموجب التعليمات الحزبية الصادرة من قيادته بدعوى التنسيق أو التحالف أو القائمة النسبية أو أي فتوى «سياسية» جديدة. ومن هنا يمكن الوثوق بأن السياسة كفكر وثقافة انتهت، وحلت محلها سياسة المصالح والمناصب التي لاتستند إلى أي مبدأ أخلاقي غير مبدأ «الغاية تبررالوسيلة» لذلك تأتي مخرجاتها إما هزيلة للغاية أو سلبية يترتب عنها الكثير من التداعيات المؤثرة في أداء الساحة الوطنية.. وهذا هو مكمن المشكلة الحقيقية التي تعيشها شعوبنا اليوم، وتزجها في أزمات متعاقبة. أما السياسة الحقيقة فهي تلك التي مارسها القادة والرموز الذين نستشهد بهم اليوم والذين بفضلها فجروا الثورات، وحرروا دولهم من الاستعمار، ورفعوا القواعد الأولى لنهضة بلدانهم والتي يعمل السياسيون المخخون على هدمها في وقتنا الحاضر بعبثهم، وفوضاهم الديمقراطية وحرياتهم الاباحية التي تُسقط حتى الثوابت الوطنية ولا تبقي قيمة لشيء سوى نفسها التي تراها الوحيدة المعصومة التي تستحق الهتاف باسمها والجلوس على كراسي الحكم.