يلخص الإمام أبو بكر بن دريد الأزدي كامل السير الوجودية والإبداعية التي وسمت العالم العربي يوم أن كانت الجغرافيا والتاريخ تعبيراً أصيلاً عن واحدية الهوية والمعنى، والشاهد أن أصوله اليمانية القحطانية توازت مع عراقيته الراكزة في عبقرية المكان وأبعاده، فقد ولد بمدينة البصرة بالعراق، وبين المستويين "اليماني - العراقي" تجوّل في أرجاء العالمين العربي والإسلامي ليكون نموذجاً فريداً للمشّائين الرائين المُصانعين في أمور الدنيا والدين والخلق أجمعين، وهكذا اكتسب ابن دريد تلك المثابة الاستثنائية التي جعلت منه موسوعة حقيقية في معارفه العالمة، ومواهبه الجامعة، وأذواقه الساطعة . ينتهي نسبه إلى زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب القحطاني .. ولد بالبصرة على عهد الخليفة المعتصم، وبهذا جمع الأصول اليمانية والبيئة العراقية البصراوية كما أسلفنا، متناغماً مع موروث الأسلاف وقابعاً في أساس وتضاعيف المكان المُلهم حيث النخيل الباذخة والمياه الجارية والأنساق الثقافية المتنوعة، وخلال سنوات حياته العامرة كان "له في كل معسكر قدم"، ومن بحار العلوم قطرات وشذرات، فقد كان عالماً من علماء اللغة العربية عليماً بأنساب العرب وأشعارهم مقيماً في سحر الثقافة الشفاهية اللّماحة حتى قيل انه "لم يُر أحفظ منه"، فقد قرأ دواوين العرب كلها، وزاد أن أتمّ وحفظ أغلبها، ومن لطائف سيرته أنه كان يحفظ الديوان عن ظهر قلب وفي رابعة من نهار، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر لنا قدرته الاستثنائية على التصنيف والتوصيف واستعادة المعلومات، ضمن سياقات تنتظم دونما قلق، فقد رُوي عنه انه أملى كتاب "الجمهرة" عن ظهر قلب وهو في الرابعة والسبعين من عمره .