يثير مفهوم العلمانية جدلاً مستمراً في الأدبيات العربية، فالبعض يُجيره على العلم منطلقاً من الثورة العلمية الأوروبية التي اعتمدت المنطق البرهاني الجبري واستبعدت الميتافيزيقا، وبهذا المعنى تكون العلمانية عتبة أُولى لعدم الاعتراف بالدين كما تذهب هذه المُقاربة . البعض الآخر قرأ المصطلح من مصادره معتبراً العلمانية مُجيرة على العالم فيما سمي « العالمية » الجبرية كثمرة لثورة المعرفة والتكنولوجية وصولاً إلى العولمة كظاهرة موضوعية .. أي على تلك الرؤية التي تقول بتعدد الثقافات وتنوعها على قاعدة وحدة الأنساق ضمن البنية المدنية للدول .. هنا نذهب إلى بُعد آخر تماماً حيث تكون العلمانية متباعدة عن الدين ولكن دون إلغاء حدي للدين ودوره في حياة الأفراد .. وجل ما يفعله النظام العلماني هو الفصل بين الدين والدولة. من الناحية المنطقية كان لأوروبا أسبابها الخاصة في الفصل بين الدين والدولة خاصة وأن الدين المسيحي الأكثر انتشاراً هناك ليس دين تشريع بل توجيهات أخلاقية .. كما أن الكنيسة الأوروبية لعبت دوراً سلبياً في أوروبا الإقطاعية عندما كانت بمثابة رأس حربة للقوى الرافضة للتطور وحتى العلم .. فالمعروف أن كنيسة القرون الوسطى في أوروبا حاكمت العلماء وأعدمتهم، ورفضت الأبحاث العلمية باعتبارها تجديفاً على القوانين الإلهية . وبالنسبة للعالم الإسلامي تبدو المسألة مختلفة من الناحية التاريخية حيث إن الشريعة الإسلامية تنطوي على أبعاد حياتية تشريعية، كما أن المؤسسة الدينية الإسلامية لم تكن دوماً في صالح السلطة الغاشمة، بل ناوأتها أحياناً مستبدلة فقه الطاعة بفقه المقاومة .. كما انتشرت الأدبيات الدينية الداعية إلى الشورى والتعارف بين الأمم والشعوب .. وهذا التعليم الإسلامي ينطوي على بُعد عالمي واضح يتجاوز مفهوم الحوار إلى مفهوم التعارف، والفرق بينهما أن المفهوم الأول يستقيم على تحاور طرفين متباينين . أما الثاني فيتوق إلى تجاوز الحوار إلى ما هو أبعد منه .. أي، إلى التماهي الكامل على أساس التعارف، وهو الأمر الذي أكسب الإسلام بُعداً عالمياً لا مجال لإنكاره أو تخطيه . بهذا المعنى يمكننا ملاحظة وجه التشابه بين العلمانية بمفهومها المُجير على العالم، والإسلام بوصفه رسالة عالمية .. لكن ذلك لا يعني التطابق، فالعلمانية الأوروبية تستبعد الدين إجرائياً ومفهومياً معتبرة الدين أمراً خاصاً بالأفراد لا الدولة، فيما الإسلام ينطلق من أن الدين والدولة وجهان لعملة واحدة .. كما أن العلمانية المُعاصرة تنطوي ضمناً على تعميم المشروع الأمريكي العالمي بوصفه رأس الحربة الأكثر فولكلورية لنتائج المذاهب المادية الجبرية، وهذا يتقاطع سلباً مع أماني الدول الصغيرة وتوقها للانعتاق من هيمنة الكبار.. وفي هذا الباب تندرج البلدان الإسلامية.