عندما انفجرت الثورة الإيرانية تفاءلنا باستيقاظ العالم الإسلامي، فلم يزد عن سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجد سوى العفن الطائفي والتجمد في مربع الزمن، أيام القرامطة والحمدانيين والعبيديين وكافور الأخشيدي. وعندما التقط آل فرعون موسى ليكون قُرّة عين لهم، أصبح موسى عدواًً وحزناً لفرعون. وبعد أن لمع وجه إيران بخاتمي الإصلاحي، وكتابه (الدين والفكر في شراك الاستبداد) بقدر نكس إيران مع الثوري نجادي، من طلبة محاصري السفارة الأمريكية في طهران، التي ساهمت بدفع (ريغان) إلى سدة الحكم بعد حصار 444 يوماً، في عمل صبياني مؤلم، وهو شاهد ساخر من أحداث التاريخ، أن يطير (كارتر) الذي فيه بقية من إنسانية، يحاول نصفة العرب في شيخوخته، مقابل ريجان الممثل في أفلام الكاوبوي. وكان صديقي (أحمد المسقطي) وهو شيعي مستنير، يقول لي في مدينة فولفسبورغ في ألمانيا عندما تعرفنا عليه، فهو مازال صديق العائلة حتى اليوم: لا فرق عندي بين صدام والخميني، إلا بعمامة هذا وطاقية ذاك. وكنت يوم الثورة عام 1979م في ألمانيا للتخصص، فجاءتني دعوة من صديق جزائري، أن نذهب فنزور طهران، بمناسبة الذكرى الثانية فلبّيت، وفي قلبي حماس، فلما وصلت تبخر كل حماسي، وعرفنا أننا رجعنا في الزمن ألف عام إلى قيروان والفاطميين والعبيديين. أما صديقي الجزائري، فكان فيه بقية من عقل فتبخر، وكان من أقرب الطلبة للمفكر (مالك بن نبي) فلم يبق فيه لحسة فكر، وكان يقفز مع القافزين، إلى ارتفاع أربعين سنتمتراً، أن يعجل الله (فرج) الإمام المختفي في السرداب؛ فعرفت أنها ثورة من الماضي، لتصفية حسابات من الماضي، تعيش على أحلام الماضي، في حالة غيبوبة عن إحداثيات العصر. ولم نر أثراً لفكر (علي شريعتي) التنويري، بل كنا مطوقين بالفقهاء واللحى والعباءة والقفطان في كل زاوية ومحراب. وعندما بدأ يتحدث آية الله العظمى (المنتظري) عن هدم بناية الشاه، كان الوفد الفلسطيني ينظر في وجه بعضهم البعض ويقولون: عم يتحدث؟!. وحسب درجات الإكليروس الشيعي، عرفنا أن الكنيسة أعيد إحياؤها باسم الإسلام، وإيران تيولوجية أوتوقراطية منذ أيام بهرام والموبذان. وبقدر نجاح (الخميني) في تفجير الثورة سلمياً، بقدر غرقها في طوفان من الدماء، في حرب عبثية مع صدام المصدوم المشنوق. وهكذا دخلت إيران نادي الأقوياء، وريقها اليوم يتحلب لأمرين: امتلاك صنم نووي، والتهام الشرق الأوسط، بأشد من شهوة جرذ جائع لقطعة جبن معفنة. وفي دمشق دُعيت من قبل أناس لمحاضرة عن (النقد الذاتي) وهي أرفع درجات النضج العقلي، وكتابي في نقد الحركات الإسلامية لاقى من العداوات أكثر من الصداقات، وبعد المحاضرة دهشت من رجل حمّلني أحمالاً ثقيلة من عشرات الكتب والرسائل، بيد الإمام التسخيري والعاملي والطباطبائي والفاتكي والجلجلي، في قضايا قديمة، أكلها العت والغبار، إلا عند قوم حريصين على إحياء الموتى من القبور وعظامهم رميم. وصديقي (أبو أسلم) من القامشلي، سمعت عنه أنه تسلل إلى الحوزات الجديدة، ليجدد إسلامه التي يتم نشرها، بأشد من نار تضرب غابة جافة في الصيف، من حلكو وعامودة، إلى طفس وتل منين، تحت حراب حزب البعث (القومي) فلما شم عفن الماضي وكراهياته لم يتابع. وفي مركز الزلزال في إيران، يتم ملاحقة الطلبة المشاغبين، وقطع أرزاقهم، وسحب إعاناتهم وهم المفلسون، ومنع أي تنظيم، وتعطيل أية صحيفة، كما حدث مع (متين مشكين) الذي تجرأ ليعمل تنظيماً، خارج التنظيم الشمولي، فكان مثل الأرنب الذي يدخل غابة الأسد والثعالب، مما دعا الطلبة في جامعة (سانندج) في الشمال الغربي من إيران، إلى الخروج ومعهم لافتات تقول (وزير بي لياقت.. استعفا استعفا) أي استقيل أيها الرئيس الهمام.. وفي أمكنة أخرى قاموا بحرق صور النجادي، الذي لم ينجد، وطالبوا بسقوط الديكتاتور، وحملوا صوره منكسة، فكان الجواب قتل الشابة نادية برصاص البسيج. والمظاهرات في إيران أحسن حالاً من الغربان في بلاد العربان، فهي علامات على بقية حياة في الإيرانيين، فلم يموتوا كما مات الناس في الأنظمة الثورية العربية. وتصدى النجادي في إيران شخصياً، ليقدم إنذاراً لأصحاب الفكر والقلم، وأعقب ذلك عملية تنظيف للعقول والجامعات، تذكر بالطاغية ستالين، بتسريح العناصر المضادة للثورة، ووضع حزبيين مؤتمنين على فكر الثورة، في كل المراكز القيادية الجامعية، وتم تسريح مئات من أساتذة الجامعة من بروفيسور ومحاضر، بل حتى جامعة طهران العريقة تم إسناد رئاستها لفقيه لا يفقه. وفي الجامعات يتجول (الرفاق) بسلاح وكاميرات للكشف عن المشتبه بهم، ويقول البروفيسور (عبدالكريم سوروش) : لقد تحولت الجامعات إلى ثكنات عسكرية. وهو أمر أعرفه جيداً، حين جاء البعث إلى السلطة؛ فأصبح الأساتذة رجال مخابرات، ومدرسو (الفتوة) جنرالات.. ودخلنا في نفق الديكتاتورية مثل زيارة جهنم، حتى إشعار آخر. وفي فيلم (مملوك) الذي تجرأ فنان إيراني في عرضه، لمدة أسبوعين، ليسُحب من الأسواق بسرعة، يمكن رؤية الكارثة التي حلّت على إيران. يبدو أن (أرسطو) محقاً في موضوع الثورات، فلم يكن يثق بأولئك الثوريين، الذين سيدمرون أكثر مما يبنون، ويرجعون بعقارب الساعة إلى الوراء، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.