عند الحديث عن التنوير والتجديد والتحديث يجب أولاً تحديد وتعيين المرجعية التي ننطلق منها لفهم وتطبيق هذه المصطلحات، والثقافة التي تشكلها والفكر الذي يحتضنها، فالمشكلة أن هناك من يرفض التنوير من حيث المبدأ باعتباره مصطلحاً مستورداً من الغرب، وهناك من يريد نشر وفرض التنوير وفق منظومة ثقافية تعادي الدين وتصادم الشرع. والحق أن التنوير من حيث المبدأ مطلوب بل وواجب، ولايعني ذلك القبول والدعوة للتنوير وفق المفهوم الغربي، فالتنوير عملية ثقافية وفكرية تتطلب مرجعية منهجية ومعرفية ولدينا كمسلمين منظومة ثقافية وأسس منهجية نستطيع من خلالها إدراك ومعرفة معالم ومجالات وجوانب التنوير في ثقافتنا باعتبار الشريعة الإسلامية تتسم بالشمول والصلاحية والاستمرارية، صحيح أن التنوير كمصطلح بهذه الصيغة غير موجود ولكنه كمفهوم ومعنى وهدف ومقصد فإنه موجود وواضح. فالتنوير هو التبصير والتعليم والوعي والفهم والمعرفة ونشر هذه المعاني والدعوة إليها والحفاظ عليها والدفاع عنها والتنوير من النور والنور من أنار بمعنى أضاء ونّور وتنويراً الشيء أضاء والصبح ظهر نوره.. ولفلان جعل له نوراً، وانارة البيت إضاءة وأنار المسألة وضحها والنّير هو المنير ويقال فلان ذو نيرة أي فطنة وفهم وبصيرة والنور الحسي هو الضوء والنور المعنوي هو العلم والفهم والعقل والإدراك، وإظهار الحق وإعلان الحقيقة يقول الله عز وجل "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" المائدة 15 ،16. فالله عز وجل في هذه الآيات يبين أنه أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لأهل الكتاب الكثير من القضايا والمسائل التي أخفوها، التي كانت موجودة في كتبهم وأن الرسول نور ومعه كتاب مبين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فالرسالة الإسلامية في جوهرها عملية تنويرية وتجديدية، والإنسان السوي لايستطيع أن يعيش إلا في النور، والذي يعيش، في ظلام الجهل وظلمات الجاهلية كأنه ميت قال تعالى "أو من كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ماكانوا يعملون" الانعام 122، ضرب الله في هذه الآية مثلاً للإنسان الذي كان ميتاً أي في الضلالة والحيرة والاضطراب الفكري، فأحياه الله أي أحيا قلبه للإيمان وجعل الله له نوراً يمشي به في الناس وهو قادر على التصرف السليم والعمل الصالح المفيد والنظر والتفكير الصحيح والسديد فهذا يختلف عن الذي مثله في الظلمات أي الجهالات والانحرافات والاضطرابات العقلية فإنه لايخرج منها إلا بإذن الله وتوفيقه وتنويره، قال تعالى في سورة الملك "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم" وقال تعالى "مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون". إنها دعوة قرآنية للتذكير والتفعيل والتدبر والتبصر والتنور والاستنارة ونبذ الجمود التقليد سواء في مجال الإيمان بالله أو في مجالات العلوم والفنون والأداب، فلابد من النظر والتأمل واستعمال العقل وإعمال الفكر والدعوة للحوار والجدال والنقد والمراجعة والمكاشفة، نقد الأفكار والمفاهيم وإعادة النظر بالمعتقدات والتصورات والبحث عن الأدلة والبراهين "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" وكل إنسان عليه مسئولية التفكير والبحث عن الحق والنور، قال تعالى "بل الإنسان على نفسه بصيرة" "ولاتزر وازرة وزر أخرى". إن الخطاب الإسلامي هو خطاب تنويري، لأنه الدين الذي يتسع به الأفق حسب تعبير الدكتور جعفر شيخ إدريس الذي يؤكد أن الأفق يتسع بالتدين بدين الإسلام، وأنه كلما كان التدين أعمق كان الأفق أرحب وأوسع، لأن هذا الدين قائم على معرفة الإله الحق ومعرفة صفات الله والتفكر فيها أمر من شأنه أن يوسع أفق العارف المتفكر، وهي صفات من شأنها أن توسع الأفق من حيث كونها تحفز العالم بها إلى الإيمان بالإله المتصف بها وإلى خشيته "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فاطر 28 ومن المهم التأكيد على أن العلماء في هذه الآية ليسوا علماء الشرع وإنما علماء النبات وعلماء الفلك والفيزياء، فالسياق الموضوعي للآيات جاء على النحو التالي "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلف ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز عفور". فالعلماء والعلم هنا ليس فقه الشريعة والتكاليف التشريعية وإنما فقه الحياة وعلوم الأرض والألوان والجيولوجيا والأحياء، إنه دين واسع الأفق، ورسالة يتحقق فيها الشمول ويبرز من خلالها النور والتنوير والعقل والتفكير والعلم بمفهومه الواسع الذي يشمل ويستغرق كافة مناحي الحياة ومجالاتها المختلفة. لقد اتسعت جوانب ومجالات الشمول الإسلامي وامتدت طولاً وعرضاً وعمقاً حتى استوعبت جميع الأفراد والأمم وقررت كل طيب من المبادئ والنظم حسب تعبير الدكتور عبدالستار سعيد، وهو الواقع والحق الذي لايختلف عليه اثنان، فالمشكلة ليست في التصور الإسلامي وإنما في سلوك وممارسات وافهام بعض المسلمين، وخاصة أولئك الذين يغرقون في الشكليات والجزئيات ويغرقون فيها والإغراق في الشكليات والجزئيات تسطيح وتشويه للإسلام، ويؤدي إلى الانحراف والانجراف ويعطل عملية التفكير ويمنع الاجتهاد والتجديد ويولد الفهوم الخاطئة والأفكار المنحرفة والمواقف المتطرفة والمطلوب في عملية التنوير هو الموازنة والتوازن وربط الجزئيات بالكليات والنصوص بالمقاصد والفروع بالأصول والتفريق بين الثوابت والمتغيرات والقطعي والظني والمحكم والمتشابه، ونستطيع القول إن هناك علماء ودعاة وخطباء بحاجة للتنوير والتوعية وفهم الإسلام بشموله وسعته وآفاقه العليا، وفي الوقت ذاته فإن المطلوب هو التنوير الإسلامي بضوابطه ومعالمه، وأما التنوير وفق معالم وضوابط غربية وأوروبية فإنه ليس تنويراً وإنما تزييفاً وتزويراً. فالتنوير الذي نؤمن به وندعو إليه، هو الملتزم بثوابت الدين وكليات الشريعة، وهو التنوير الذي ينطلق من مرجعية إسلامية متمثلة بالكتاب والسنة واتفاق الأمة، تنوير يجدد المعالم الجمالية للدين ويحقق السعادة للناس أما التنوير الذي يتطاول على الثوابت الشرعية والأصول الكلية فإنه تزوير وتزييف وكذب وتدليس، والتنوير الذي يقول إن الإسلام عقيدة وليس شريعة مرفوض وغير مقبول ومثله القول بالحرية المطلقة وبلا ضابط ولا مسئولية إنه تزوير وخداع وتضليل فلا حرية بلا مسئولية ولاتعددية بلا ضوابط، وكل حق لك يقابله واجب عليك، ولايوجد في العالم شيء بلا ضوابط أو حدود، الكون كله يسير في نظام غاية في الدقة والتنظيم والسنن والمعالم والضوابط فطرة الله التي فطر الناس عليها وصبغته التي لا نجد أحسن منها صبغة.