كان شعار آخر حوار بين المؤتمر الشعبي العام وأحزاب اللقاء المشترك في فبراير 2009، هو تأجيل الانتخابات لمدة عامين، وتضمن الاتفاق التأكيد على الالتزام بالإعداد للانتخابات، وتسوية الخلافات بالحوار البنّاء.. والملاحظ هو أن حوارات أخرى سبقت هذا الحوار، وتم الاتفاق على قضايا أخرى، لكنها سرعان ما تنتهي إلى اتهامات متبادلة من قبل الطرفين، وهذا شيء طبيعي، لأن هذه الحوارات تجري أثناء جلسات قات، وتحت هيمنة نشوة القات سرعان ما يغير المتحاورون آراءهم بمجرد ما يتخلصون من القات!!. لقد تحولت اللقاءات بين الأحزاب السياسية اليمنية وخاصة ما يتعلق بالحوار إلى أمنيات مؤجلة، وهو ما يكشف عن بنية مأزومة للأحزاب السياسية، ولعل السبب يعود في ذلك إلى إعلاء ما هو سياسي على حساب ما هو اقتصادي وثقافي. لقد أصبحت السياسة هي التي تصنع تفاصيل الحياة اليومية، وهي التي ترسم ملامح المقياس الأبرز للتوافق أو الاختلاف، التقارب أو التباعد. لقد تغولت السياسة على الثقافة، واحتكرت الخطاب السائد، وأصبحت علامة الحكم على الصواب والخطأ، فكلما اقتربت هذه الأحزاب سياسياً في لحظة ما، أو توافقت على قضية معينة، اصطخبت الساحة بحديث مستفيض عن نجاحها. وعلى النقيض حينما يدب الخلاف وتتلبد الأجواء بغيوم الخلاف والصراع، يدور حديث مضاد عن الخيبة والفشل. وهنا لابد لنا من التوقف أمام العملية الديمقراطية، فالديمقراطية - كما هو معروف - تقوم على التعددية الحزبية، والأحزاب تشكل القوى الفاعلة، ويصعب تصور ديمقراطية أكثر قوة وحيوية وفاعلية من دون أحزاب تؤمن بالديمقراطية وتمارسها على مستوى أعضائها. إن السمة العامة للأحزاب اليمنية هي أنها أحزاب تقوم ثقافتها على الصراع والإقصاء، وعجزها عن التعامل الخلاق مع المسائل الاجتماعية والوطنية. وهي تواجه تحديات متعددة في وقت تتآكل فيه مقوماتها الذاتية في مختلف المجالات، ولم ينجح أي حزب في بناء مشروع تنمية شاملة أو حتى الاتفاق على قضايا اجتماعية تهم الجميع؛ إذ لم تستطع هذه الأحزاب داخل البرلمان الاتفاق على سن قانون يحدد؛ أو بمعنى أصح يمنع زواج القاصرات!!. والواضح أن هذه الأحزاب لم تدرك بعد أهمية الجانب الاقتصادي والثقافي، وقدرتهما على تحقيق الأمن والأمان للوطن، ولهذا أصبح الخلاف أمراً مألوفاً. وهو ما أعطى الفرصة للخارجين عن النظام والقانون لأن يعملوا بحرية وكثافة على تنشيط عوامل الانقسام على أسس عشائرية ومناطقية ومذهبية. وقد عبرت حرب صعدة وما يسمى بالحراك عن ذلك، وأصبحنا أمام نظام سياسي متشرذم عكس نفسه على وحدة الوطن، ولهذا يريد البعض أن يظل الوطن أصغر حجماً من وضعه الطبيعي. ومن يتأمل الحياة السياسية اليمنية يلاحظ أن هناك سمات مميزة لعملية إعادة إنتاج نمط الأزمات، تنبع من طبيعة الكيان الحزبي الثقافي والسياسي والاجتماعي المأزوم، وهي نفس السمات التي ترفع نسبة تكرار هذا النمط من الأزمات على نحو جعل الوطن غير مستقر. يعود السبب في ذلك إلى شخصنة العمل الحزبي، فهذه الأحزاب لا تخضع للمساءلة على الإطلاق، ولا تتم مناقشة القضايا المصيرية، لذلك أغلب الأزمات هي أزمات مفتعلة يرتكبها هذا الطرف أو ذاك. وأسمح لنفسي بضرب مثال واحد هنا؛ فتمرد الحوثيين لم تدنه أحزاب المعارضة، وظلت تحمّل الحكومة مسئولية ذلك، فاستغل الحوثيون هذه التصريحات، وبالمثل عدم إدانة الأعمال التخريبية لما يسمى بالحراك وخاصة الذي يدعو إلى الانفصال قد أدى إلى تشجيع هؤلاء على التمادي والتطاول على الأمن الاجتماعي. ولهذه الاعتبارات وغيرها يصعب إقامة نظام سياسي يمتلك بنية مؤسسية؛ إذ كيف نتوقع إقامة نظام سياسي مؤسسي على أحزاب ليست مؤسسية؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه. ولا نغالي إذا قلنا إن الثقافة السياسية اليمنية تعاني غياب أدب الاختلاف والقدرة على الحوار المجتمعي والسياسي نتيجة قصور الرؤية وغياب الاستراتيجيات؛ وهو أمر نلمسه داخل كل حزب من الأحزاب، وهو ماثل للعيان في العجز عن توليد مصالح مشتركة بين أطراف الحوار. غياب البعد الوطني وفقدان رؤية العمل الحزبي يفترض أن يستند في تماسكه إلى رابطة ولاء وطني واحد والشعور بالانتماء إلى كيان جماعي واحد. لقد أدّى الاتفاق على تأجيل الانتخابات إلى مزيد من الاحتقان والعبث بالدستور، حيث اختلطت الاتجاهات وغابت مرجعيات الاستناد والقياس، فتعثر المسار، وتبعثرت الأوراق، وتشتت الرؤى، وانفجرت التناقضات، وتاهت خطوط القضايا الوطنية بين ما هو جوهري وما هو ثانوي، وبهتت الأهداف الوطنية وضاعت وسط الخلافات الحزبية العقيمة. إن المشهد السياسي اليمني أصبح مزدحماً بالعديد من الأزمات المعقدة دون حل، واستمرار هذه الحلقة المفرغة سيأخذ اليمن إلى المجهول ويهدد استقرارها وأمنها. لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في علاقتنا بالوطن، ما لم فسوف ننسف ما تبقى من علاقات التضامن الاجتماعي، وسنصبح متناحرين لا نقبل ببعضنا البعض، وقد بدأت بعض المؤشرات على ذلك.