كنت استمع يوما إلى حوار بين طبيب نيجيري ومريض سعودي وهو يسأله عن شكواه فكانت مسرحية كوميدية تعجز عنها الأوبرا الفرنسية، لأن السعودي كان يتكلم باللهجة المحلية ولم تكن بالعربية الفصحى. والطبيب النيجيري يشتغل عقله على ثلاث موجات لفهم الكلمات بثلاث ترجمات: الأولى من العربية إلى الإنجليزية، والثانية من العربية باللهجة المحلية إلى الفصحى، والثالثة من لغة الثقافة إلى لغة المصطلحات الطبية فعليه أن يعرف أن كلمة (حمّ) هي ارتفاع الحرارة وأن (الكتمة) هي ضيق النفس وعليه أن يفك سر كلمة (الفحمة) التي تعني السواد باللغة العربية ولكنها شكوى عند المريض في قلبه. ونفس النيجيري أو الهندي وهم كثر في المملكة يتكلمون الإنجليزية بطريقتهم الخاصة وهذا معناه أنه يجب إضافة ترجمة رابعة إلى الترجمات الثلاث السابقة من إنجليزية ويلز ونيويورك إلى الإنجليزية النيجيرية أو الإنجليزية الهندية. كنت أراقب هذه الكوميديا وأتذكر رحلتي للاختصاص في ألمانيا ومعهد غوته لتعلم اللغة الألمانية. كنا نقرأ الإعلانات تقدم عروضا للأطباء الأجانب كما هو الحال في المملكة ولكن كانوا يكتبون في الإعلان بشكل واضح أن شرط الفوز بالوظيفة هو (التمكن من اللغة الألمانية كتابة ونطقاً Beherschung der deutschen Sprache in Wort und Schrift). وأول ما بدأت رحلتي هي بإمساك مفتاح كل الأبواب أي اللغة فمن نطق الألمانية فتح المجتمع الألماني كل أبوابه أمامه. وهكذا ذهبنا إلى دورة مكثفة في معهد (جوته) في الجنوب الألماني. وكان يمكن في المملكة أن تنشئ معاهد للغة العربية كشرط لعمل أي قادم إلى المملكة. ونحن في ألمانيا نطقنا الألمانية في ثلاثة أشهر وتمكنا منها في ستة أشهر واعتلينا صهوة البيان في ثلاث سنوات. وما زلت أستفيد من اللغة الألمانية في الثقافة أكثر من الطب، والواقع أن المملكة لو اعتمدت سياسة التعريب ببطء لنشرت اللغة العربية في العالمين فهناك ربما ستون جنسية في البلد. والاتصال هو ميزة بني آدم فلا يمكن أن يعالج طبيب مريضا إذا لم يفهمه ولا يمكن استقدام ترجمان في كل مرة ومكان. واليوم يعمل الواقع بطريقته الخاصة فإذا لم تعلم الناس العربية الجيدة فلسوف ينطقون العربية المكسرة؟ وهكذا ولدت لغة في المملكة هي عربية وعجمية بنفس الوقت. وهي من أعجب الكلام. فالعامل البنغالي مثلا يقول: أنا في كلام أنت في مفهوم. يقصد أنه يتحدث وأن الآخر فهم منه؟ وعندما يراجع الإنسان تاريخ قوة اللغات من ضعفها وانتشارها من انقراضها فإن هذا يرجع إلى قوة الحضارة. واليوم تظهر قناة الديسكفري لغات لم يعد يتكلم بها أكثر من 150 شخصا كما في لغة المايا في غواتيمالا. وتنقرض عشرات اللغات في السنة فلا يبقى إلا الأفراد الذين يتكلمون بها. وهناك حاليا ستة آلاف لغة على وجه الأرض في ستة مليارات من البشر ولكن بعد نصف قرن قد لا يتبقى إلا المئات منها. وقصة اللغة العربية تحكي قصة التفوق الحضاري أو الهزيمة. وابن خلدون في المقدمة عقد فصلا عجيباً بعنوان فصل في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. ويعلل ذلك ابن خلدون أن “النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه،وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم” ثم يروي كيفية سريان هذه القاعدة على تقليد الناس لأهل الحاميات العسكرية فيقول:” وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان لأنهم الغالبون لهم” ثم يستشهد بواقعة من هذا النوع لاحظها في أهل الأندلس في زمانه فيقول:”كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل والجدران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله” وكلام ابن خلدون ينطبق على موضوع اللغة. وجامعة دمشق حاولت تعريب الطب ولكنها دخلت معركة خاسرة, واليوم تزحف اللغة الإنجليزية عبر الإنترنت في كل العالم ومن لم يتصل باللغة الإنجليزية والإنترنت أصبح خارج التاريخ. وتلك الأيام نداولها بين الناس.