لم يكن يعلم ولم يخطر له على بال بأن عناصر الشر والإجرام قد زرعوا له أسباب الموت تحت الكرسي الذي اعتاد أن يجلس عليه إلى جانب عدد من زملائه وأصدقائه يتجاذبون أطراف الحديث, كما يفعل الكثير من الناس هنا وهناك في أوقات الفراغ.. سمع الانفجار الأول الذي حدث قرب ملعب"الوحدة" في عدن فأوصى من كانوا إلى جانبه بالهدوء وبعد ثوانٍ معدودة انفجرت الأرض من تحته بما زرع القتلة فيها من متفجرات الموت, وذهب إلى ربه شهيداً بإذنه تعالى, وشاهداً على المجرمين بأنهم يسفكون دماء المسلمين عبثاً ويزرعون للناس أسباب الموت في الطرقات وفي المقاهي والنوادي وحيثما أوعز لهم شياطينهم من الإنس والجن. كان الضحية أباً لعدد من الأطفال لايعلمون لماذا قُتل والدهم ولا أنا أعلم ولاأنتم تعلمون, لماذا قُتل هو وغيره من الذين يُقتلون بهذه الطريقة البشعة وغيرها من طرق القتل التي عشقها القتلة وعشقوا بذلك لون الدماء والأشلاء حين تتناثر ظلماً وعدواناً؟ كان يعول إلى جانب أطفاله والديه. وقد اعتاد الوالدان مجيئه إليهما كل ليلة, وفي تلك الليلة لم يأت؛ لأنه لم يعد على قيد الحياة فقد اغتالته قنابل الموت التي زرعها زارعو الأحزان, كانت أسئلة والديه أكبر من أن يُجاب عنها: لماذا لم يأت الليلة؟ لماذا تأخر؟ لماذا لم يأت بالعشاء وهو الذي لم يتأخر به ليلة واحدة؟ كل هذه التساؤلات بعثت الخوف في نفوس الأهل والأحباب, حتى عندما علموا السبب وهو أن الرجل قد مات مقتولاً مغدوراً, لم يصدقوا الخبر فأنكروه في البداية حتى تبينت الحقيقة, وهي أنه صار أشلاء ولولا الموت ما تأخر عن والديه لحظة واحدة ولما تركهم من غير عشاء ينتظرون وصوله وعيونهم مشرئبة نحو الباب وآذانهم منصتة لوقع الخطى التي تمر في الحي.. صار الموت حقيقة وهو حقيقة في كل الأحوال وفي كل زمن ومكان, غير أن موت الرجل في تلك الظروف لم يكن متوقعاً, ولذلك كان الموت هو آخر الاحتمالات المطروحة أمام أهله ووالديه حين تأخر عن موعد عودته إلى بيته وأطفاله وفي ذهابه إلى والديه. هكذا يترك الضحايا حكاياتٍ وقصصاً مؤلمة بعد رحيلهم.. نؤمن بأن لكل أجل كتاب وأن للموت أواناً لايتأخر ولايتقدم، لكن الله سمّى القاتل قاتلاً وأمر بالقصاص؛ لأنه الحياة للناس, ومن هنا لايجب أن يُترك زارعو الأحزان والموت يسرحون ويمرحون ويعيثون في الأرض فساداً وخراباً وقتلاً وتدميراً.. من أجل خاطر الأطفال اليتامى الذين ينتظرون عودة والدهم ويسالون لماذا لم يُعد بعد، وفي ذات الوقت ينتظرون مايعود به حين يعود بعد الغياب لأنهم يظنون أنه سيعود يوماً بالهدايا واللُعب والمتطلبات الأخرى, ومن أجل خاطر كل المتضررين من زراعة الموت وصناعته لايجب أن تستمر هذه الزراعة وهذه الصناعة.. كان في المقهى يجلس ولم يُعد إلى أطفاله وأهله وغيره مثله وهناك من كان في طريقه إلى منزله في أماكن أخرى ولم يصل لأن الأشرار والمجرمين زرعوا في طريقه وطريق الآمنين أسباب الموت أو الإعاقات والعاهات.. إنهم – أي الأشرار – يزرعون لنا الموت في كل مكان ويزرعون لنا الأحزان في كل الأوقات.. إنهم لايقتلون فرداً واحداً وإن كان المقتول واحداً، بل إنهم يقتلون الأمل بحياة آمنة مستقرة, ويقتلون الفرح في قلوب أهل الضحايا والسعادة من أوقاتهم إنها مآسٍٍ كثيرة تخلفها كل عملية إجرامية عبثية تستهدف إنساناً أو منشأة وإن راح ضحيتها طائر يطير في السماء فقد خسرنا تغريده في كل وقت.