لماذا يكثر في بلادنا العمل بعكس سنن الحياة وطبيعتها في الوصول إلى الغايات والمرامي؟!. فما أكثر حُبنا لصعود السلالم درجتين أو ثلاثاً في الخطوة الواحدة غير آبهين بإجماع حكماء الأرض منذ بدء الخليقة على أن “الصعود خطوةً خطوة... أو حبةً حبة أو درجةً درجة”.. فلماذا هكذا نحب دائما أن ننضج قبل أن نمر بمراحل كافية من النمو .. هناك الكثير ممن يتصدون للفتوى في أي علم من علوم الحياة أو فن من فنونها وهم لا يزالون في الشاطئ بعيداً عن أول عمق من أعماق البحر .. يؤكدون ويجزمون، ويتمنطقون ويجادلون.. يرتدون عباءات الجهابذة وأهل الاقتدار وربما سعوا نحو القيام بمهام وإنجاز مشروعات وحل مشكلات لم يسبق لهم أن جربوها أو تحصلوا على الإعداد والخبرات والأساسيات التي تمكنهم من التعامل معها... ولذلك فكل عمل يوكل إليهم يكون مصيره الفشل، وكل فكر يدّعونه أو رأي يتبنونه يكون أجوف أو مجرد ظاهرة صوتية لها جعجعة وليس لها طحن, ولها شكل وبهرج وليس لها معنى .. وليس المهم عند هؤلاء نفع المجتمع ومساعدته على حل مشكلاته، بل إن المهم هو إرضاء هوى النفس وحب السيطرة واختزال المسافة إلى مكان الصدارة ووفرة العائد المادي أو بحثاً عن الشهرة والحضور في أفواه الناس أياً كان الذكر حسناً أو سيئاً... ولأجل تحقيق هذه الغايات لا يستحي هؤلاء من أن يرتدوا قُمُصاً غير قُمُصهم, أو أن يظهروا بنظارات تغطّي وجوههم, أو أن يذهبوا في الحديث عن قضايا وأفكار هي أكبر من عقولهم وألصق بغيرهم من الراسخين الذين أنفقوا في سبيل الفهم والمعرفة والدراية الليالي والأيام والشهور والسنين حتى ثبتت أقدامهم ونضجت عقولهم وتشبّعت قرائحهم حتى أصبحوا – كلٌ في مجاله – يشكلون خزانة وطنية ضخمة من العقول والكفاءات والخبرات التي يسير على هدايتها موكب النهضة والتطوير في هذا الوطن. مثل هؤلاء العجالى لا يفكرون أن وجودهم في مضمار البناء والنهوض فسادٌ كبير.. لأنهم لا يحبون أن يتعلموا، فهم يخلطون الأوراق ويدخلون “حُمُرهم” بين “الخيول”.. ولا يكفون أذاهم عن الناس لأنهم يرون أن مصلحتهم فوق كل المصالح, وأن المشكلات بغير وجودهم لاتنصلح، والأمور لا تتم، والمهام لا تنجز, فالحياة على أكتافهم وستنتهي برحيلهم.. وربما دار في أذهانهم أن إحالتهم إلى التقاعد أو إبعادهم سيكون من علامات الساعة الصغرى!. وما الذي سيحدث لو أن هؤلاء آمنوا بسنن الكون في التطور والارتقاء؟! وأن بلوغ المجد وتحقيق المنى يكون بعد خطوات ومراحل وتضحيات تقتضي النجاح لكل من عمل بها وأتقن صنعتها وانتهج سبيلها، وأن لكل مجتهد نصيبا!! لماذا لا يستفيدون من حبة “الذرة الشامية” في كيفية نمو عودها حتى بلوغ مرحلة نضج الثمرة، فعُود هذه الحبة يتميز في نموه بأنه يُخرِجُ من رأسه “زعانف” مثل زعانف القمح لكنها ليست مثلها، فزعانف الذرة لا تكون وعاء للثمرة بعكس القمح.. والمهم الذي ينبغي أن يلتفت إليه هؤلاء أن عود “الذرة الشامية” إذا تعجل في إخراج “الزعانف” وهو لا يزال قصيراً نحيلاً حديث عهد بالحياة؛ فإنه يكون غير مثمر, ويعلم المزارع مسبقاً أن لا خير فيه ولا فائدة ترجى منه لأن السنبلة لا تنبت إلا في العود القوي المكتمل النمو الذي لا يُخرِجُ “زعانفه” إلا وقد صار عملاقاً يحمل في وسطه سنبلة أو أكثر. وهل أدرك هؤلاء أن الزبيب لا يكون زبيباً إلا بعد أن يكون “حصرما”, والحصرم: هو المرحلة التي تسبق العنب قبل أن يصبح زبيباً، أي أنها مرحلة لابد منها لتكوّن الزبيب.. وقولهم: “تزبّبتَ قبل أن تتحصرم” مثل قديم قاله الإمام أبو حنيفة النعمان – رحمه الله – لتلميذه “أبي يوسف” عندما رآه فجأة يتصدّر حلقة علمية بعد أن ترك مجلس أستاذه «أبي حنيفة», فما كان من الأخير إلا أن قال له: “تزبّبتَ قبل أن تتحصرم” فتأدّب أبو يوسف وعاد إلى حلقة أستاذه، وصارت هذه المقولة اليوم مثلاً يضرب لمن يرى في نفسه الاكتفاء والاقتدار فيتجهبذ أو يجعل نفسه مرجعاً في شيء ما وهو لا يزال في خطواته الأولى من مراحل المعرفة وأخذ الأساسيات الكافية لإعداده وتصييره عارفاً .. وهو ما نراه اليوم بكثرة. [email protected]