فكرة القانون أو السببية هي التي بدأت تهيمن على تفكير الفلاسفة والمفكرين بدءاً من القرن الثامن عشر، لذا كتب منتسكيو قبل أن يبلور أفكاره الأخيرة في كتابه الشهير روح الشرائع عن السببية وإمساكها برقبة التاريخ، عندما حاول أن يفهم انهيار روما والعوامل المؤثرة الخلفية فجاء في كتابه أبحاث في أسباب عظمة الرومان وفي صعودهم وانحطاطهم: «إن هناك أسباباً عامة معنوية ومادية تفعل فعلها في كل مملكة فترفعها وتحفظها أو تقلبها, وأن كل ما يحدث إنما يخضع لتلك الأسباب». وصلنا إذاً إلى معلم بارز الآن بين مفهوم السببية أو القانون وبين الصدفة, ولكن ما هي الصدفة؟!. علينا هنا أن نعتمد دراسة شيقة قام بها عالم روسي هو ليونارد راستريغين يعتبر عالماً مرموقاً في علم السايبرنتيك, أي علم التحكم للتحرر من دوار الفوضى والصدفة. يقول بقدر حتمية نزول القطعة المعدنية إلى الأرض بقدر احتمالية رسوها على وجه بذاته. ولكن لماذا كان رسو وجه بذاته احتمالياً وما هي العناصر التي تلعب دوراً في تشكيله؟, يقول المؤلف: من الواضح أننا لن نستطيع أبداً توقع على أي وجه ستسقط قطعة النقد, لأن مصير القطعة تحدده أربعة عناصر على الأقل, وهي: رامي القطعة الوسط الذي تسقط فيه القطعة السطح الذي سترسو عليه خصائص القطعة النقدية ذاتها, وكل عنصر من هذه العناصر حيوي بالنسبة للنتيجة، وكل منها بدوره نتاج عدد هائل من الأسباب. وفي الحقيقة فإن عدد هذه المسببات لا نهائي من الناحية العملية، ولذا من المستحيل وضعها جميعاً في الاعتبار في الوقت نفسه حتى ولو رمية واحدة للقطعة النقدية. ولكن ما يحدث مع مشكلة وجه القطعة المعدنية يعبّر عن مشكلة كونية ضخمة لفهم منظومة عالم الصدفة، فهي أخيراً لا تطل المصادفة من جهلنا فقط، ولا من التعقيد اللا نهائي لعالمنا فقط، ولا من محدودية دقة القياس فقط، ولكنها أيضاً موروثة من المبدأ الشهير اللا يقينية الذي صاغه عالم الطبيعة الألماني فيرنر هايزنبرغ. ولكن المصادفة تعبّر في الواقع عن لا توقعية جهلنا الراجعة إلى المعلومات الرديئة التي بحوزتنا والراجعة إلى غياب البيانات الضرورية، وإلى نقص معرفتنا الأساسية، وهكذا نعرف المصادفة بأنها مقياس للجهل، فكلما قلت المعلومات التي لدينا حول أي موضوع كلما كان سلوكه مصادفة. وبالعكس كلما توفرت المعلومات التي نعرفها حوله قلت سلوكيات المصادفة، وازدادت قدرتنا على توقع سلوكه المستقبلي.