مع جواز الحديث عن اللغة بوصفها حاملة الفكر، إلا أن في ذلك من التسطيح ما يقصر دورها، كما لو كانت فقط أداة للتوصيل لا قيمة لها، إلا في ما تؤديه، وليس في ذاتها، بينما الأكثر دقة أن اللغة هي منظومة الفكر، لا لأنه لا يمكن أن يُعبّر عنه إلا بها، ولكن لأن التفكير في دلالته الأوسع – ذات الأبعاد النقدية والفلسفية المتجددة – قائم على اللغة وصادر عنها في جدلية يصح معها القطع بتوقف أحدهما على الآخر. واللغة بهذا المعنى في كينونتها الصورية والدلالية معطى اجتماعي، اكتسبت التداول بين أفراد المجتمع من كونها السمة الأبرز للوجود الإنساني، بما يعني بالنسبة لهم أبعد من النظر إليها دالة على الحياة إلى اعتبارها الحياة عينها. وكما انتهت اللغة – من حيث أنها نظام صوتي ودلالي، وفي بعديها: المجرد صورياً في الذهن، والمرمّز نطقاً وكتابة أو رسماً – إلى ثوابت ومسلمات وقطعيات، إلا أنها في سيرورتها التداولية اجتماعياً وثيقة الصلة بالمحيط الحاضن لها ومستحدثاته على اختلافها، وهو ما يجعل من مواكبتها المتغيرات شرطاً ضرورياً، ليس لتأكيد حقها وحدها في البقاء وإنما الناطق بها كذلك. وفي ما استقرت عليه اللغة وفق القواعد الصوتية والكتابية، التي جرى بها العرف اللغوي ضمن المنظومة الاجتماعية على امتدادها الزمني واتساعها المكاني يكون الاشتغال الفردي، صوتياً وكتابياً، خارج إطارها الجامع، وبعيداً عن محدداتها الكلية شذوذاً يكفي أنه سيفضي بصاحبه إلى العزلة، نظراً لإغفاله في المعطى اللغوي جانب الاجتماعية، الذي لا يجيز إخضاعها للنزعات الفردية. وكذلك الحال بالنسبة للتوليد في سياق المواكبة، إن على مستوى تعدد الدلالات وتجددها، أو الصور الذهنية وتموضعها صوتياً وكتابياً، فإن إنتاجها بعيداً عن السياق الاجتماعي ومرجعياته الحاكمة على المنظومة الفكرية للاشتغال في اللغة لا يعدو صنيعاً فردياً، فضلاً عن اتخاذه وجهة الأنا لوروده على أهوائها، وليس ناحية الجماعة لتجاوزه شروطها ومحدداتها، فإن تقبله في الوسط الاجتماعي من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلا، وهو ما يجعل من صاحبه مغرداً خارج السرب، أو كمن يسبح ضد التيار. وباستحضار صفة المعطى الاجتماعي للغة فإن المعبَّر عنه لغوياً، أكان مجرداً أو محسوساً، يأخذ في جانب كبير منه الوظيفة الإعلامية للغة، التي يتحدد مدلولها في الإخبار عن المعطيات ذات التموضع الأولي خارج كينونة اللغة، ومن ثم يتم الإعلام بها لغوياً، سواء في صورة كتابية أو صوتية. والوظيفة الإعلامية للغة، في أبعادها المختلفة لا تعدو بها، في الجانب الوظيفي الإعلامي وليس في المطلق، قنوات توصيل عن طريقها يستطيع من حيل بينه وشهادة الأحداث والوقائع ومصادر المعلومات والأخبار – بفعل العوامل الزمانية والمكانية وسواها – العلم بها والوقوف عليها بما تنقله إليه وسائل الإعلام التي تتخذ الوسيط اللغوي، وذلك حال التعرض لها. ومع فاعلية اللغة في طابعها الوظيفي الإخباري إلا أن اقتصارها في ما تؤديه على الوسط الاجتماعي الناطق بها، وليد تعدد اللغات الحية وتنوعها، فمع واحدية الحدث المُخْبَر عنه، إلا أن نجاح أية لغة في الإعلام به لن يتعدى القادرين على فك رموزها، الأمر الذي يعني احتياج الحدث ذاته للإخبار به على مستوى واسع، صوتياً وكتابياً، اتخاذ لغات متعددة. وذات الأمر، ولكن مع تقليص الفارق، يصدق على اللغة الواحدة، ولتكن العربية على سبيل المثال. فتمكن وسائل الإعلام الناطقة بها – مع استثناء كثير مما تنطوي عليه العاميات المختلفة داخلها بالتأكيد – من تحقيق مردود وظيفتها الإخبارية يتوقف على انتهاجها مسلكا وسيطا بين لغة العلم الصرفة والأدب، وهو ما تنهض به لغة الإعلام التي يمكن وصفها بالعملية. ثم إن الوظيفة الإعلامية للغة في دلالتها الحرفية، وإن كانت تشي بمجرد الإعلام والإخبار، إلا أنها في المجمل ليست كذلك؛ إذ إن قصدية الإعلام بالحدث كما هو في الواقع من دون زيادة أو نقصان، التي توحي بالتزام الموضوعية والحياد، ضرب من المثالية لا ينفي الحرص على طلبها حال الإخبار أن تحقُّق شروطها بالكلية غير وارد إلا في ما ندر. وفي هذا السياق فإن توسُّل الإقناع بمراتب مختلفة ركوباً لموجة الوظيفة الإعلامية للغة، بات يتداخل معها بكيفية أو بأخرى، وعلى سبيل التمثيل فبين توجيه الخبر من خلال اتخاذ مستوى دلالي معين، أو التركيز على جانب منه وتهميش أو إغفال آخر، أو غير ذلك، يتحقق في الوظيفة الإعلامية وصفها بالإقناعية أو قريب منها. [email protected]