قبل خمسة وستين عاماً لم يكن بوسع أحد في العالم مجرد التفكير بأن شعب اليابان سيعود ذات يوم إلى ما كان عليه قبل إلقاء الولاياتالمتحدة قنبلتين ذريتين على مدينتي (هيروشيما) و (ناكازاكي) وحوّلتهما إلى خراب. قبل 65 عاماً لم يكن بوسع الأرقام إحصاء الضحايا أو تقدير قيمة الخسائر، أو تخمين كم من الأموال والجهود والأعوام تحتاج اليابان لإعادة الإعمار.. وكم من الزمن سيستغرقه اليابانيون لمحو الآثار النفسية التي خلفها ذلك اليوم العاصف بالوحشية، والذي لم يجد الطيار الذي ألقى القنبلة الأولى ما يقوله من هول ما رآه سوى: (يا إلهي..ماذا فعلت..)!! لكن بعد أقل من عقدين اكتشف الجميع أن اليابانيين كانوا وحدهم من يعرفون الإجابة، وقد عادوا إلى مسرح السياسة العالمية ليقولوا للعالم أجمع: (نحن هنا.. فالشعوب الأصيلة لا تموت بقنبلة؛ لأن رصيدها من الحضارة كفيل ببعث أمجادها مجدداً) على حد تعبير أحد المفكرين اليابانيين. ويبدو أن الشعب الياباني كان مؤمناً حتى النخاع بتلك الفلسفة، لذلك حين عاد لالتقاط أنفاسه وبناء قدراته العظيمة لم يفكر بالثأر لنفسه بتكنولوجيا الحرب المتطورة، بل إنه غزا الولاياتالمتحدةالأمريكية حضارياً بالتكنولوجيا الإلكترونية المدنية التي نافست المنتجات المحلية واقتحمت كل بيت أمريكي بجدارة، ثم وصلت إلى كل بقعة من العالم لتؤكد إرادة الشعب الياباني الصلبة، ومدى اعتزازه بخدمة الإنسانية وحب السلام، ولتغرس في نفوس البشرية قناعة التجدد الحضاري وثقافة الانتصار التنموي. ربما يجهل كثير من اليمنيين الحقائق التاريخية حول طبيعة علاقة بلادهم باليابان، وعلى حد علمي أن الإمام يحيى بن حميد الدين بعث عام 1938م أول رسالة يمنية إلى إمبراطور اليابان يعرض عليه فيها إقامة علاقات صداقة ويسأله بماذا تستطيع اليابان أن تخدم اليمن وتساعدها، فكان أسلوب الرسالة أن أثار استغراب الإمبراطور نظراً للغة التي كتبت بها.. ورغم عدم نجاح مساعي الإمام يحيى إلا أن قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م كان موضع ترحيب اليابان التي أعلنت الاعتراف بالنظام الجمهوري عام 1963م، وفي نوفمبر 1967م كانت اليابان في مقدمة من اعترف بالثورة حال نجاحها.. وفي 1990م باركت اليابان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وبدأت تمد جسور صداقتها الوثيقة مع اليمن، وتدعم مسيرتها التنموية، فتوجها الرئيس صالح بزيارة عام 1999م. قبل يومين اهتزت أبداننا لنبأ الزلزال الذي ضرب اليابان بقوة 8.9 درجة بمقياس ريختر، وهو الأعنف من نوعه منذ ما يزيد عن نصف قرن.. وقد أودى الزلزال بأرواح ما يزيد عن 13 ألف شخص، والرقم مرشح للتصاعد يومياً، ودمر العديد من المدن والمنشآت الصناعية بما فيها ثلاثة مفاعلات نووية أصبحت هي العنوان الأول لقلق الياباني من مخاوف انتشار إشعاعاتها والتسبب بمضاعفة آثار الكارثة البشرية والبيئية، خاصة مع صعوبة التعاطي مع خطرها. وطبقاً لآخر التصريحات فإن الخسائر التي تكبدتها اليابان جراء الكارثة تقدر بحوالي 170 مليار دولار، حيث وصف المسئولون الحدث بأنه أسوأ مما لحق اليابان جراء إلقاء القنبلتين الذريتين عليها إبان الحرب العالمية الثانية 1945م. ورغم هول الكارثة فإن اليابان التي احتفلت عاصمتها طوكيو قبل فترة بمرور مائة عام على عدم انقطاع التيار الكهربائي فيها، واجهت الأزمة بكثير من الحكمة، والجلادة، والتدبير الواعي بمسئولياته في مثل هذه المواقف، فوقف العالم كله مفتوناً بقوة إرادة الشعب الياباني في مواجهة التحديات. إن قلوبنا تتفطر ألماً على فداحة ما تكبدته اليابان من خسائر بشرية ومادية وحضارية جراء الزلزال المدمر.. إلا أننا مؤمنون بقضاء الله وقدره، وبإرادة هذا الشعب العظيم الأصيل الذي علمته الكوارث كيف يصبر ويحتسب لله ويشتد صلابة ليقهر أقداره. قلوبنا معكم أيها الأصدقاء الأعزاء، سنواصل رفع أكفنا إلى السماء في كل صلاة لنسأل الخالق اللطف بهذا الشعب العظيم، وأن يظلله برحمته، ويعينه مجدداً لتجاوز النكبات..