إن قراءة التاريخ مفيدة, ولولا ذلك ما اعتبرها القرآن مصدراً للمعرفة, “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة الذين خلوا من قبل”. وأحياناً يعتريني شعور أشبه بالدوار حينما يسبح خيالي في تصور البشر الذين سبقونا, فأقول: هل يعقل أن يكون عاش قبلنا أجيال وأجيال ولم نجتمع بأحد ولم نر أحداً، ولكن يكذبني الواقع, فأقول: ولكن من أين جئت أنا, ثم أقول كيف عاشوا وكيف عانوا وكيف ماتوا, وما شعورهم حينما دخلوا الأبدية, وكيف كانوا ينظرون إلى ظروف أيامهم, لقد عاشوا تماماً مثلنا فأكلوا وشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا؟!. وأحياناً أسبح في التفكير إلى درجة أن تدمع عيني عندما أتصور طوابير لا تنتهي من أجدادنا سلكوا إلى العالم الأخروي فلا نسمع لهم ركزا. وأقول أحياناً الحياة قصيرة وإنها أقصر من أن نقصرها بالتفاهات أو أن نقتل أحداً فنقصر حياته التي منحه إياها الله رب العالمين الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. وأحياناً أقول: ما هذا الشر الذي تدفق إلى العالم, ولماذا, ومن أين جاءت جذوره؟! ثم أقول: إن حياة أحدنا لا تعني أكثر من شرارة موقتة من نار عظيمة. والمهم كنت أقرأ في مرحلة دول الطوائف, لأن وضع العالم العربي الراهن ذكرني به فهالني ما قرأت؛ ففي الأندلس حصلت مصيبة عظيمة حينما عجز العرب عن الحياة المشتركة، فولدت من الدولة العامرية مع نهاية القرن الرابع الهجري عشر دول متناثرة شتى، بحيث كان يخطب للجميع ويكنى كل واحد بأمير المؤمنين وعنده جيشه وشعبه. والمحزن أنها كانت دولاً يعمّها الشقاق والنزاع تماماً مثل الانتحار الداخلي في الوقت الذي كان الأسبان يشنون حرب الاسترداد, وكان في اشبيلية بنو عباد ومؤسسها القاضي أبو القاسم العباد، وفي طليلطة ذو النون وقد ضاعت منهم عاصمة الأندلس الاسبانية عام 1085م. وفي سرقسطة بنو هود وهي كلها حواضر جميلة جداً وقد زرت معظمها شخصياً, وفي البرتغال التي هي أرض البرتقال بنو الأفطس, وفي غرناطة كان البربر, وفي قرطبة تربع على العرش بنو حمود وجهور. ونقرأ لابن حزم الأندلسي الذي عاصر هذه الفترة وهو متشاءم من الوضع جداً, أما صديق ابن خلدون لسان الدين ابن الخطيب فكتب شعراً تغنيه فيروز حتى هذه الأيام: “يا زمان الوصل في الأندلس”. وقال في شعره عبارة مؤثرة: كنا عظاماً فصرنا عظاماً, إذا قرئت بالضم ثم الكسر, ونصح بعدم البقاء بالأندلس والالتحاق بالحواضر الإسلامية في الشمال الأفريقي, وهو ما رأيته في فاس الأموية، وكان الرجل واعياً تماماً للأحداث. وابن خلدون الذي تقلب في ثلاث مراحل أساسية عاش ثلث عمره بين الأندلس والمغرب وتقلب في المغامرات السياسية كثيراً ويشبه مكيافيلي من جانب، وارتاع بدوره من الانهيار الأندلسي وكيفية بدء المسلمين بتقليد الاسبان والجيالقة وعلق على هذا أنها من مظاهر الشعور بكمال الغالب وأنها مؤشر مشئوم إلى النهاية. واليوم نحن نعاني من ظاهرة مشابهة من السيطرة الأمريكية وشعورنا أنهم الأعلى, وهي تحمل في باطنها علامات خطيرة لتحلل الأمة لولا مؤشرات جديدة دبت في أوصال الأمة مع عام 2011م. وفي دول الطوائف كان الوضع على غاية الخطورة, وفي الواقع كاد الأندلس أن ينتهي مع نهاية القرن الحادي عشر للميلاد لولا أمرين؛ انهماك الأسبان بصراع داخلي وافتقادهم الوحدة الكاملة، وبالمقابل وجود دول قوية مثل المرابطين والموحدين في المغرب مما أعاق سقوط الأندلس قروناً. والسقوط الحقيقي ونهاية الأندلس الفعلية كانت مع دول الطوائف, والعالم العربي مهدد بمصير سيىء من هذا النوع ما لم تحدث معجزة ،والأمل كبير بالله أن تتبدل الحالة، ولكن وقت المعجزات والمؤشرات خطيرة وأجراس الإنذار تقرع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.