إن المتأمل للواقع الفكري للأمة الإسلامية لابد أن يلحظ ما يستلفت الأنظار من نزوع كثير من قيادات التوجيه الديني إلى تأجيج الخلاف ومن إلحاح على إبراز سمات التميز والتفرد بين جماعات ومذاهب الأمة بدل التماس الجذور المشتركة التي يتم على أسسها الاتفاق والتلاقي.. ومكمن الداء في هذا النزوع أنه يرسخ فينا منطق الفرقة والتشرذم ويعظم الجفوة بين الفئات ويسخر الطاقات والجهود في غير المجالات التي يحبب أن تسخر فيها ليتم انتشال الأمة من وهدتها ووضعها في الموقع الذي يهيئها للتصدي لما يراد بها من اجتثاث واستئصال. لقد أصبحت الأمة الإسلامية قطاعات متعددة وجزيئات متناثرة تفقد مقومات التناسق والتكافل لأن الفكر الذي يرتاد لها الآفاق يحرص على التفرد بدل أن يتسامى إلى استشراف اللحظة التي تنصهر فيها الفئات في مفهوم الأمة الواحدة الناهضة بفريضة القوامية على الناس بما أوتيت من هدى ونور. والخطر في هذه التقابلات لايكمن في الاختلاف في حد ذاته وإنما يكمن في إفراز هذا الاختلاف لروح التشرذم والتشتت مادام الدعاة يعجزون عن مد جسور التلاقي والتواصل بينهم وماداموا يتعصبون ويتشددون في تمسكهم بما آل إليه اجتهادهم وما داموا يرون أن ما عندهم الحق الذي لاخلاف فيه، وأن ما عند مخالفيهم هو الباطل الذي لاخلاف فيه وعلى أساسه يرسمون مواقع جديدة تستنزف جهدهم وطاقتهم.. إذ يتصورون أن مخالفهم يجب أن يكون موضوع دعوتهم وإرشادهم فيجعلون الهدف من عملهم زحزحته عما هو عليه من رأي هو أيضاً وليد اجتهاد ونتيجة نظر في الأدلة الشرعية.. ومازالت الإنسانية نابضة في قلوب محبيها ومازالت المبادىء والقيم بازغة رغم أفول وفقدان الكثير منها. كلما أحاول أن أفتش عن مكامن النزاهة وصحوة الضمير أنحصر في قلة قليلة من الناس الذين فعلاً رفعوا لواء القيم والأخلاق في تعاملهم مع الناس واحترامهم وتكوين مخزون لاينفد من الحب في قلوب كثير من الناس البسطاء والضعفاء في زمن سادت فيه كل مراتب الظلم والاضطهاد على بني الإنسان، ولا ننسى أن نستشهد بنماذج فعلاً عايشناها مثل العقيد الركن علي صالح الفني، ورائد ركن عادل الباهلي وغيرها من الشخصيات المليئة بالقيم والمناهضة للنرجسية وحسن تعاملها مع الإنسان كإنسان كرمه الخالق سبحانه وتعالى فكيف يستبعده المخلوق المسئول عنه أمام الله؟. وأنا هنا لا أبالغ قيد أنملة لأن الإنسان المحترم يذكره الناس بأخلاقه وأفعاله، أما الإنسان النقيض له فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم “هتكوا الفاجر كي يحذره الناس” وحين نستهدف في مثل مقالتنا هذه تجاوز هذه الأزمة لنصل إلى بث روح التسامح والتسامي على كل الخلافات فإنني أعتقد أن الموضوع لايجدي فيه مجرد إسداء نصح أو إزجاء موعظة أو تدبيج خطبة وإنما يتعين أن نعود إلى تلك القواعد والأسس العلمية التي أصلها في موروثنا الثقافي وإلى علمائنا القدامى وهم يوصلون التسامح، فنزيل عن تلك الأصول والقواعد السجف والأستار التي ألقتها عليها سنوات التخلف والانحطاط التي مرت بها هذه الأمة فنعيدها إلى الوعي ونبالغ في ترسيخها وتعميمها على كل العاملين في الحقل الإسلامي لتثمر بعد ذلك تسامحاً مؤصلاً على علم وبصيرة.