كانت دولة الملكة أروى بنت أحمد تعبر عن روحية حضارية مؤكدة.. والشاهد أن سيادة الفكر الفاطمي الاسماعيلي على ذلك العهد عبَّر عن رحابة وسطية تكاملت مع المذاهب الوسطية اليمانية بشقيها الشافعي والزيدي، فقد بدتْ الإسماعيلية منسابة في زمن التجسير الفكري والتأصيل المعرفي التوّاق إلى ردم الهوة بين الشريعة والحقيقة تأسياً بتعاليم ابن رشد صاحب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال”.. الفائض بمعني الكمال، والرائي للفضيلة بوصفها الجامع الأسمى بين المستويين، فالحكمة والشريعة يلتقيان عن تخوم الفضيلة، وإذا اختفت الفضيلة في الحكمة فلا لقاء البتة بين المستويين. إلى ذلك سار التعليم الاسماعيلي قُدماً ليُلغي الحواجز والجدران التي كانت تفرق بين الفكر الإسلامي والأفكار النابعة من الحضارات والديانات الأخرى، وقد حظي الأغارقة بمكانة مميزة في “ رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا” التي نسبت دوماً للإسماعيلية الفكرية، بالرغم من تعمُّد كُتّابها الغموض، فيما حرص المؤلفون المجهولون لتلك الرسائل على تعليم النظر المتأمل لظواهر الكون والوجود والمجتمع. خرجت الملكة أروى من تضاعيف تلك الرؤى، وكانت - بحسب المؤرخين - تمثل نموذجاً باهراً للتماهي بين الذات «الأبيقورية» الحكيمة، مع إقامة مؤكدة في الفكر، ودونما تنازل عن موجبات الشريعة ونواميسها. وقد كرّست السيدة أروى بنت أحمد نموذجاً فريداً لدولة الرفاه اللامركزية، وشهد اليمن في عهدها تطوراً عظيما في مختلف المجالات، فقد كتب المؤرخون أن الدولة الصليحة مثلت محطة فارقة في التاريخ الوسيط لليمن، وأن الناس عاشوا في وئام وسلام، وذلك عطفاً على وجودهم المادي والروحي الذي اعتمر بالنعمة والرخاء، حتى قال بعضهم «إن الكلاب كانت تلعب مع القطط، والقطط مع الفئران!»، في اشارة إلى درجة الرخاء والنعيم الذي شهدته دولة الصليحيين اللامركزية .