الأمنية ورقة مجهول نائمة في سجل الأيام، ليست ماضياً نكيل بعد رحيله فيض الحسرات، ولا حاضراً يلتف حوله حبل الزفرات، إنها شيء آخر ليس بالحي ولا بالميت ولو أن بعضها يكفن ويدفن مع صاحبه، ولهذا قد تكون الأمنية رحلة شوق لما كان أو مسيرة شغف لما سيكون، تأملوا معي هذه الأمنية: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ إنها أمنية مبحرة إلى الماضي وهي ميتة لأن ما فات مات، هذه الأمنية غارقة في بحر الحسرة والحزن والأسى والضعف، لكن هناك أمنية أخرى تمناها شاعرٌ آخر أثارت نقع الحروف وهزت أركانها: ليت الزلازل والصواعق في يدي فأصبّها للغافلين قوافيا في الأمنية شيء من المحال وبعض من الجموع وقليل أيضاً من سطوة الخيال. ومن الجميل أن تسكن الأمنيات توابيت الأيام حتى لا تفسد متعة السفر إلى تحقيقها، بل الأجمل أن تموت أمنياتنا مع غروب شمس كل يوم ثم تعود لتشرق مع رحيل الليل حتى نجدد الإحساس بقيمتها المعنوية لدينا إلى أن تصل أحاسيسنا إلى مشارف الارتواء، كلنا يتمنى ويحلم ويصبو إلى تحقيق تلك الأمنيات والأحلام التي تداعب حواف عقله وتدغدغ أطراف قلبه وتبسط أمام عينيه مساحة الإرادة، لكن ليس منا من يهتم بتأطير أمنياته بأسباب تحقيقها، إذ إن إدراك قيمة الزمان والمكان ضرورة لابد من توفيرها حين نصبح مستعدين لجمع أدوات الوصول الحثيث إلى نهاية المطاف. لا يكفي أن نتمنى ونستميت في تصوير ما نتمناه كمشروع حياة جديدة دون أن نكيّف أنفسنا على استقبال النتائج وتعميق قدرتها على التوصيف، إذ لا يمكن أن تبقى القوالب ذاتها إذا تغيرت المواد وتعددت أشكالها. لنا من الأمنيات الكثير، لكن أكبرها يبقى قائماً بالقسط بين صغارها حتى تكبر..! وحين تصبح الأمنية كبيرة بحيث تشغل مساحة القلب والعقل معاً نكون قد بدأنا ندخل حجرة الهواجس المغلفة بالتسويف والتواكل وقلة الأخذ بالأسباب، هنا يجب أن نتوقف ونعلم أن تحقيق أمنية على أرض الواقع لا يعني إلغاء وجودها في عالم الخيال والعكس من هذا صحيح أيضاً، حيث إن لكل شيء ظلاً يثبت وجوده والخيال هو ظل الواقع. في تابوت الأمنيات ترقد تلك الأحلام التي وئدت رضيعة بين يدي القدر أو تلك التي وصلت إلى منتصف الطريق بين الخلود والأفول إلى أخرى بلغت قمة المجد لكنها لم تستطع البقاء عالياً.. ذلك التابوت يدهشنا في وقتٍ ما من ساعة العمر بالتحوصل في آلة موسيقية تعزف مقطوعة التاريخ البشري على وترٍ واحد.. في أمنيةٍ ما يمكن أن يولد إنسان ويمكن أن يموت آخر، إذ إن الموت لا يقف على الأبواب أبداً..! أمنياتنا المستحيلة انعكاس لنقطة الضعف التي نعانيها داخل أنفسنا، لأن الضعف يغلق أبواب القوة كما أن الخوف يغلق أبواب الطمأنينة وبحضور الأضداد تختفي أهمية المفردة المطلقة ويبقى أثر الحدث فقط موجوداً، لا غرابة توقف دفق الاندهاش من هذا التابوت الذي حمل جثمان أمنياتنا حية وميتة في تزاوجٍ طبيعي بين ما هو موجود فعلاً وما نرغب أن يكون موجوداً واقعياً.