إذا اتفقنا على أن ماجرى ويجري في اليمن وعديد البلدان العربية ينتمي إلى مفهوم الثورة، فإن علينا أن نقر بأن هذا المفهوم يعني ضمناً وأساساً سلسلة من الأماني والآمال التي يفترض أن تُمثل نهجاً وسلوكاً وخياراً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التغيير، وإعادة النظر في المنظومات القانونية والآليات الممارسية للدولة، واستبدال نموذج الدولة التاريخية المشوّهة وإن تدثرت برداء الجمهورية، بالدولة العصرية التي توسع ملعب المشاركة، وتجعل اللامركزية الشاملة الركن الأول في مشروعها. مثل هذه الدولة العصرية لا مفر لها من التناوب السلمي للسلطة، واعتبار الهُويّة قرينة المواطنة القانونية لا السلالية، وعدم افتعال التناقض بين حكمة الشريعة ومقتضيات السياسة المُتغيرة، والنظر إلى العلمانية بروحية مُغايرة للمفهوم السائد في الأدبيات الشعبوية غير الابستمولوجية، وهو مفهوم لاعلاقة له بالعلمانية البتة، فأصل التسمية والمفهوم نابع من مصطلح secular ويعني بالعربية «المجتمع الألفي الفاضل» ومخطط هذا المجتمع ليس محصوراً في إطار العلاقة بين الدين والدولة فقط، أو العلاقة بين الدين والعلم كما نستوهم، ولا حتى العلاقة بين القانون الوضعي والعُرف الاجتماعي، بل إنه مخطط أشمل من ذلك بكثير، وأي فصل بين المستويات الثنائية السابقة إنما هو فصل إجرائي، وليس فصلاً مفهومياً، والحال فإن للدين قدسيته المحفوفة بذرى المِثال، وللحياة مقتضياتها التي تستوحي من الدين القيم الفاضلة، وتحاول ترجمتها، إجتهاداًً، عبر القوانين المنظمة لحياة الناس. هنا يصبح الدين والعُرف مصدرين مؤكدين للتشريع، ولا تناقض البتة بين الاجتهاد التشريعي والدين من جهة، وبين الاجتهاد التشريعي والعُرف من جهة أُخرى، ولنا أُسوة حسنة في تركيا حزب العدالة والتنمية النابعة من وسطية “ بديع الزمان النورسي” وصوفية “جلال الدين الرومي” . تلك بعض مقتضيات التغيير ومفهوم الثورة بمعناها الواسع، وسنرى أن نبل الثورة لاعلاقة له بالانتقام والعودة إلى الوراء وإعادة انتاج سيئات الماضي القريب والبعيد، والتمرغ في أوحال المراتبية الاستيهامية أياً كان نوعها وشكلها. ومن هذه الزاوية بالذات يمكننا قراءة معنى التغيير القائم في اليمن بوصفه مشروعاً لم يتحقق بعد، ومعنى الثورة بوصفها بؤرة اشتعال لم تتحول بعد إلى نور يضيء لنا الطريق . مقتضيات التغيير ونواميس الثورة تقضي منا أن نعترف مسبقاً بأن المساهمين في هذا الفعل الانتقالي الاجتماعي الشامل يتوزّعون إلى مستويات متعددة، ويتفرعون إلى روافد تتكامل ولا تتناقض، حيث يتساوى في هذا الفعل الكفاحي الصبور شباب الساحات مع جماهير الشعب الغفيرة الصابرة على المكاره، والأحزاب السياسية المُشرْعنة دستورياً، مع المكونات الاجتماعية السياسية التي اكتسبت شرعية الأمر الواقع من خلال حضورها الفاعل في المجتمع، وكذا الذين امتشقوا حسام الرفض لسيئات النظام، ممن حاولوا دهراً تسييج النظام ونصيحته والارتقاء به، دون جدوى. الجميع ساهم ويساهم في هذا المسار الكبير، بمن فيهم الصامتون المحتسبون لدرء الفتنة، والذين سجلوا مواقف فردية جمعت بين الرفض المبكر لسلوك أجهزة النظام، والمنطق البراغماتي الناظر للمستقبل القادم. تلك هي روافد الثورة التي لا تتناقض، ولا يحل فيها أحد محل الآخر، ولا تتحوّل إلى متوالية للتنافي العدمي الهائم في ذرا المِثال غير القابل للتحقُّقْ .. أقول هذا الكلام لأننا في لحظة تاريخية حاسمة تتطلب الخروج من عنق الزجاجة الضيقة دون أن نعتبر ذات الزجاجة ضيقة العنق معياراً للثورة والتغيير. [email protected]