لم يعد ثمة شك في أن (الإنسان) هو أهم مورد وأفضل ثروة يمكن أن يمتلكها أي بلد، وهو أهم من الثروة النفطية والثروة المعدنية، وإليه يُعزى تقدم ونمو كثير من الدول التي تفتقر إلى هذه الثروات كاليابان والصين وماليزيا وسانغفورا والهند وغيرها، فأنظمة هذه الدول لما أدركت افتقار بلدانها إلى الثروات النفطية والمعدنية اتجهت إلى الاهتمام بالثروة (البشرية) فأهّلتها تأهيلاً خاصاً، وأعدتها إعداداً جيداً فحققت بها أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم والتي بلغت أكثر من (11 %) في الصين لمدة ثمانية أعوام متتالية، وهي الدولة التي تضم (ربع) سكان الكرة الأرضية! وعلى النقيض تماماً؛ يُعزى تخلف وتأخر الدول العربية التي تمتلك ثروات نفطية ومعدنية وحضارية هائلة إلى إهمال أنظمتها للثروة البشرية وعدم تأهيلها وإعدادها بالشكل المناسب، واستغلال الأنظمة العربية الشمولية للإنسان أسوأ استغلال، ومعاملته أبشع معاملة، وقهره وإذلاله، واحتقاره، والحط من كرامته، وامتهان آدميته.. ولو تسنى لدولٍ كاليابان والصين والهند وماليزيا وسانغفورا أن تمتلك الثروات التي يمتلكها العرب لاستغلتها في مزيد من التأهيل والإعداد لمواطنيها حتى تتقدم أكثر وتنمو أكثر، وتصبح أقطاب العالم بلا منافس. إن بلادنا على سبيل المثال تمتلك من مقومات النهوض وإمكانات التقدم ما لا يتوفر حتى في دول الخليج التي نستجدي عطفها لضمنا إلى كتلتها التعاونية وهذا من دون مبالغة. نحن لدينا ثروة نفطية مثلنا مثل عمان تماماً بل ربما أكثر.. ولكن أين نحن وأين عمان؟ ولدينا ثروة غازية مثلنا مثل قطر سواء بسواء.. ولكن أين نحن وأين قطر؟ ولدينا سلسلة جبال تضم في حناياها ثروات معدنية تحلم بها السعودية.. ولكن أين نحن وأين السعودية؟ ولدينا سواحل تتزاحم فيها أغلى أنواع الجمبري والشروخ فضلاً عن أنواع الأسماك الأخرى تتمناها الإمارات.. ولكن أين نحن وأين الإمارات؟ ولدينا جزر مثل دولة البحرين مائة مرة.. ولكن أين نحن وأين البحرين؟ ولدينا تأريخ حضاري لا يقل أهمية عن التأريخ الحضاري الفرعوني.. ولكن أين نحن وأين الفراعنة؟ ولدينا فوق كل ذلك ثروة بشرية لا تمتلكها دول الخليج مجتمعة.. ولكن ما زلنا في آخر قائمة المتخلفين حضارياً وعلمياً واقتصادياً وسياسياً. إن سوء الإدارة وفساد النظام البائد أدّيا وعلى مدى ثلاثة ثلاثين عاماً من السياسات المتخلفة التي تكره تعليم المواطن وتأهيله وإعداده إلى فشل ذريع في استغلال كل تلك الثروات وعلى رأسها (الثروة البشرية) التي تعاني من حالة إحباط شديدة. إن من أولى الأولويات وأوجب الواجبات وأهم الضرورات هو الاهتمام بالإنسان.. الإنسان أولاً وأخيراً.. الإنسان قبل الأرض.. المواطن أهم من الوطن.. لأن عزة الوطن من عزة أبنائه، وذله من ذلة أبنائه، وكرامته من كرامة أبنائه.. فلا وطن بدون إنسان.. بينما الإنسان يمكن أن يتخذ أي وطن. إن على نظام ما بعد الثورة أن يتجه إلى الاستثمار في البشر.. في الإنسان.. الثروة الوطنية التي لا تنضب إلا بنضوب التاريخ والزمن.. عليه أن يفتح أبواب الاستثمار على مصاريعها في التعليم والتدريب، وأن يدفع بالمستثمرين نحو التعليم والاستثمار في التعليم بدلاً من الاستثمار في الفنادق والمجمعات السياحية، وإن على النظام الجديد أن يزيل كل العقبات التي وضعها النظام البائد في القوانين واللوائح والفرمانات القراقوشية التي أعاقت ومنعت الكثير من المستثمرين في مجال التعليم والتدريب. إن منح أرضية لمستثمر يبني عليها مدرسة أهلية أو معهداً فنياً أو جامعة أهلية أولى من منح مستثمر أرضية ليبني عليها فندقاً أو مجمعاً سكنياً. وإن إعفاء المستثمر في مجالات التعليم من الرسوم والضرائب الباهظة والجبايات المتعددة وغير القانونية أولى من إعفاء مستثمر في المجال الصناعي. وإن وقف أرضية للتعليم في مكان هو أحوج ما يحتاج إلى مدرسة أولى من وقفها لبناء مسجد لا يبعد إلا بضع خطوات من مسجد آخر. وإن الوقوف أمام الجامعات الأهلية ومنعها من فتح بعض التخصصات، أو استيعاب الدارسين في الدراسات العليا، وإخضاعها لأنظمة التعليم العالي الحكومي الذي أثبت فشله لهو أكبر دليل على حتمية الوقوف أمام كل القوانين واللوائح الموضوعة وإعادة صياغتها بما يتناسب ومتطلبات العصر الحديث. * أستاذ إدارة الأعمال المساعد