تبقى المصالحة الوطنية هي الإجراء الصحيح لتجاوز مرحلة الخلاف الحاد الذي طغى على العلاقات السياسية والاجتماعية في الفترة الماضية، وقوانين المصالحة تبقى عقلانية وعواقبها مضمونة للجميع حين تصبح قابلة للتنفيذ. لا فرق إن جاءت فكرة هذه القوانين من الداخل أو اقترحها لنا الغير وسعى إلى إصدارها وتطبيقها في الواقع خدمة للحلول الأُخرى. سياسة الانتقام وتصفية الحسابات بالاجتثاث والملاحقة والتنكيل والقتل بالهوية، كل هذه الأساليب شديدة الصلة بالسياسات العربية، والأمر الأِشد خطورة هو أنها تحولت إلى ثقافة مجتمعية في كثير من الأحيان، ولذلك تتحول أبسط الخلافات والتباينات إلى حالات قتل وتصفية جسدية. هذه السياسات جاءت عواقبها كارثية واستهلكت من الأرواح والمقدّرات المادية مالا يُحصى، وخلّفت من الأحقاد والضغائن وردود الأفعال ما حوّل الحياة في أوقات كثيرة إلى صراع دائم وعنف مستمر. اليوم حين يجري الحديث عن قوانين المصالحة الوطنية تلوح بشائر خير بتفادي كوارث النزعات الانتقامية والتي لا تفرّق بين من يستحق المُساءلة أو العقاب وبين أُناسٍ يذهبون ضحايا بين هذا وذاك وهم أبرياء لولا الحسابات الخاطئة وسياسة التعميم المدفوعة بنزعات الانتقام الشخصي أحياناً، وحين يحدث هذا التوجه تبدأ مرحلة الرعب الشامل والخراب العام. عندما كنا نتحدث عن ضرورة الحلول التوافقية قبل الحديث عن المصالحة وقوانينها؛ كان الهدف هو تفادي الصراع الذي سيصبح نتيجة لحلول تُفرض بالقوة ويكون من نتائجها الإضرار بفئات من الناس سيجدون أنفسهم مضطرين إلى مواجهة الضرر والإضرار. أحياناً نجد بعض الناس المشتغلين بالسياسة أو المتاجرين بها يدفعون بالأوضاع نحو الأخطاء التاريخية نتيجة نزوات وطيش أحياناً أو عدم خبرة كافية أحياناً أخرى، ولذلك على العقلاء وأصحاب الخبرة السياسية وذوي النظرات الثاقبة والبعيدة المدى أن يجنّبوا المغامرين والمقامرين في مرحلة كهذه التي لا تحتمل المزيد منا الأخطاء. المصالحة الوطنية قد لا تعيد خسائر الأيام الماضية؛ لكنها ستجنبنا المزيد منها؛ وسوف تُغلق - إن صدقت النوايا - أكبر أبواب الشر الذي يتهدد الحاضر والمستقبل، وينذر بجولات من الصراع الدموي الذي له شواهد حقيقية جرت في أكثر من مكان، حيث لم تحضر المصالحة ولم تحضر قبلها النوايا الصادقة للأخذ بأسباب الحلول عن وعي وإدراك بعواقب استمرار الخلافات والحروب. فكرة المصالحة بحد ذاتها تُحسب لأصحابها وقد أدركوا ضرورة إغلاق أبواب الشر ليصبح الوطن للجميع، ومن المؤكد أن الحديث سوف يطول في قضية بهذه الأهمية، ونأمل أن تنتصر في الخاتمة المناقشات والحوارات؛ لأن البلد في كل الأحوال لا يحتمل مزيداً من أسباب الفتن والثأرات وتصفية الحسابات. دعوا القوانين المطروحة تأخذ حقها من التأمل والدراسة حتى تخرج بأحسن صيغة؛ ولكن دون أن توأد الفكرة، وبما يعكس أهمية أن تبدأ المرحلة القادمة وهي خالية من المنغصات ومن دوافع الصراع ورغبات الانتقام عندما تسلك الأمور مسلكاً خاطئاً نتيجة النزعات والأهواء الشخصية.