أظهرت الأزمة اليمنية ضوءاً جديداً على القضايا السياسية الاجتماعية، التي مست المجتمع اليمني، لقد ظهرت فاعلية القمع ولغة الاحتجاج لدى المثقف الذي كان يعول عليه نقد الواقع من وجهة نظر تغييره، واقتراح البدائل السياسية التي تؤمّن المجتمع ولا تدمره. من المعروف أن المثقف وظيفته إنتاج المعرفة الصحيحة التي تفيد الإنسان والربط بين المعرفة والفضيلة، لكن ما قام به المثقف اليمني وخاصة ذلك الذي نقل مجلس القات من البيت إلى الخيمة في الشارع قد عاد على المجتمع بالأذى. أستطيع القول: إن المثقف اليمني خلال هذه الأزمة لعب دوره من خلال عنصرين اثنين: العنصر الأول ارتبط بانتماء المثقف إلى أحزاب سياسية, والعنصر الثاني جعل فكرة التغيير ملكية خاصة بعيداً عن القبول بالآخر المختلف. لقد أظهر المثقف اليمني أنه محدود الأسئلة والإجابات، ومن الطريف الذي لا طرافة فيه أن يصبح النظام مختزلاً بشخص واحد ويتم تعبئة الشباب على هذا الأساس وبذلك يصبح علي محسن وحميد الأحمر والزنداني والحوثي دعاة الدولة المدنية، لقد تنازل هذا المثقف عن وظيفته النقدية التي يتعرف بها، واختصر عمله بالتسويغ والاكتفاء بالعموميات الوطنية واعتبر المثقف المغاير الرافض لثقافة التثوير عميلاً وعدواً للثورة الوهمية, ومن يقرأ خطاب المثقفين الثوريين يلمس الروح العدائية والانتقامية معاً. ولا أجانب الحقيقة إذا قلت: إن المثقف الثوري قد قام بتأميم الحقيقة، حيث الوطني الحقيقي من وجهة نظره هو من يصطف مع الميليشيات القبلية والمتطرفة ومن يقف مع علي محسن بوصفه حامياً للثورة، ولا أخفيكم القول: إن هذا المثقف قد عمل على إعادة إنتاج المنظور السلطوي الذي دعا إلى رفضه بشكل أو بآخر, وأصبح سكان الخيام في الشوارع العامة وقاطعو الطريق قريبين من “التطبع” بالاستبداد, فنسوا معنى الحرية. في هذه المخيمات تم استيلاء الجماعات التي استثمرها رجال الدين سواء من قبيل حزب الإصلاح أو جماعة الحوثي، وهما طرفان يحملان في مكونهما أسباب الصراع. لقد استطاعت هذه القوى أن تستقطب العوام من خلال ربطها بين الراحة الاجتماعية وفكرة الثورة، فقد وفرت لساكني الخيام القات والغذاء واستغلت فقرهم فأذعنتهم لشروطها، وعلى خلاف ثقافة التعدد التي تجسدت خلال المرحلة الماضية وطدت القوى السياسية التي لجأت إلى الشارع ثقافة الصوت الواحد، بل وطدت أحادية الصوت وأنكرت التعدد .. هذه الأحادية افترضت اليقين واستحلت الركود، لقد همشت الحوار المجتمعي وغيبت الفضاء السياسي وأفقرت الحاجات اليومية، كل هذا يصادر إمكانية قيام مجتمع مدني أو دولة مدنية. كان المجتمع اليمني يراهن على النهوض من خلال المثقف والحزب السياسي والجامعة، لكن هؤلاء صادروا الحلم النهضوي وصادروا شروطه. من المحزن أن يخترع المثقف اليمني صورة حميدة لأشخاص يعادون الدولة المدنية وهو مازال يناديهم بلقب الشيخ، وهو يدرك أن هذا اللقب يتنافى مع المدنية ومع المواطنة لقد جمع المثقف اليمني بين اليأس وبؤس النظر واستسلم لتبعية سعيدة، حيث أوكل للشيخ والجنرال الوظيفة التي يسوغ بها وجوده، وقدم الشيخ على أنه رائد للدولة المدنية الحديثة. كم كنت أتمنى أن يمارس المثقف بطولة الدفاع عن قيم العدالة والحرية والمساواة والمسئولية، وعن حق المواطن في تأمين حاجاته اليومية التي تحيل على حقوق المواطنة، التي تتضمن الحق في التعبير والكلام، والحق في الرفض والقبول والاختيار والمبادرة. كنت أتمنى من المثقف أن يفصل بين دولة القانون المنشودة والسلطات القبلية والأسرية. ألم تكن المدينة فضاء حراً يسير فيه المواطن بلا مساءلة فتحولت إلى مكان هندسي وأصبح الإنسان الحر لاحرية له, يحاسَب في دخوله إلى بيته وخروجه منه. أخيراً يمكن القول: إن المثقف اليمني رفض ماهو قائم ولم يقترح البديل، إن الذي امتدح الشيخ إنما جمّل العبودية وامتدح الكوابيس. لقد ساعد المثقفون اليمنيون بتحالفهم مع القوى التقليدية على استمرار المجتمع التقليدي القبلي والعشائري وهذا مؤشر على العمى الذي يعيشه هذا المثقف وابتعاده عن مرحلة المجتمع الحديث والثقافة الوحدوية الموحدة للجميع تحت سقف واحد هو المواطنة, وكل ذلك يعد شروطاً لازمة للدولة المدنية .. يحتاج المثقف إلى مراجعة فكرية قوية تكون الغلبة فيها لميثاق سياسي يحترم إرادة الشعب ومصالحه وأحقيته في الحياة الكريمة.