لم تشكل ثورات الربيع العربي محطات تغيير في المشهد السياسي العربي فحسب، بل شكلت هذه الثورات تغييراً واضحاً في السياسية الخارجية ومواقف الدول العظمى وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية تجاه دول الشرق الأوسط وخصوصا الدول العربية التي اندلعت فيها هذه الثورات, ففي حين اعتمدت السياسة الخارجية الأمريكية قبل ثورات الربيع وفي عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن على منطق القوة المنفرة، غير الجاذبة، ليس فقط على المستوى العربي أو الإسلامي، بل على مستوى العالم أجمع؛ فإن باراك أوباما يتكئ في سياساته الخارجية على نظرية عالم السياسة الأميركي (بروفيسور جوزيف ناي) وهي واحدة من النظريات الدائرة في محور القوة الذكية، ومضمونها هو الجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. حيث بيّن الرئيس الأميركي باراك أوباما في أحد خطاباته التي ألقاها عقب اندلاع ثورات الربيع العربي في مصر وتونس أن بلاده تحمل الرغبة في تكييف أسلوب علاقاتها مع الدول العربية، وفقاً لتطلعات «الشعوب»، وليس الأنظمة الحاكمة! وهذا التكييف السياسي الذكي استهدف منه اوباما محاولة ركوب موجة التغيير في العالم العربي وكسب قلوب وعقول الشعب العربي. وتفسيره ما كشف عنه أوباما في نفس الخطاب بقوله: «إن مستقبلنا مرتبط بهذه المنطقة، بفعل قوى الاقتصاد والأمن، والتاريخ والإيمان». ولذلك يسعى اوباما وإدارته الحالية إلى إعادة دور الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة مقبولة، تسهم في عمليات التغيير الجارية في العالم العربي، واستغلالها الاستغلال الأمثل لتحقيق سياساتها في المنطقة، من خلال تأكيده على قدرة الولاياتالمتحدة على إعادة استكشاف نقاط القوة والإبداع في تفعيل القوة الذكية واستخدامها، وجعل هذه القوة استراتيجية جديدة للسياسة الأميركية في المنطقة، من خلال دعم مؤسسات المجتمع المدني، والتأكيد على أهمية ثورة المعلومات، والتشجيع على استخدامها في عمليات التواصل، لتحقيق التغيير والإصلاح في العالم العربي. لكن وبالرغم من هذه الاستراتيجية يبقى المحك الحقيقي لكسب عقول وقلوب شعوب ثورات الربيع العربي مرهوناً بمدى عدالة السياسة الأمريكية الجديدة ومواقفها تجاه قضية العرب الأولى القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي, والالتزام بمبادئ العدل والحرية والمساواة التي نادى بها الرئيس أوباما في خطابه عقب اندلاع هذه الثورات مبشراً بذلك الربيع الأميركي المقبل! وهو الربيع الذي لم نلمسه كشعوب عربية على أرض الواقع حتى اليوم. فالرئيس اوباما أكد في خطاباته الأخيرة خصوصاً التي ألقاها أمام المؤتمر السنوي للشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية «إيباك» وقبله خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وخطابه أمام مجموعة من اليهود في الولاياتالمتحدةالامريكية, دعمه اللامحدود لإسرائيل كحليف استراتيجي لأمريكا في المنطقة وحرص الولاياتالمتحدة الشديد على أمن وسلامة اسرائيل وعمل كل ما من شأنه تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة، مثل الوقوف بقوة ضد البرنامج النووي الإيراني كونه يشكل خطراً كبيراً وتهديداً لأمن المنطقة وأمن اسرائيل وبالذات من وجهة نظر الامريكيين ودعم الثورة السورية باعتبارها تهدف إلى الإطاحة بنظام الأسد حليف إيران في المنطقة. وقد أدركت يقيناً بعد سماعي لهذه الخطابات أن دعم وتأييد أمريكا لثورات الربيع العربي والذي يتفاوت ويتنوع من ثورة إلى أخرى ليس الهدف منه كما تحاول أن توهمنا به بعض وسائل الإعلام الموجهة أمريكياً دعم عمليات وحركات التغيير وإزالة الأنظمة الفاسدة والانتصار لمطالب وإرادة الشعوب العربية التي تتطلع إلى مزيد من الحرية والتقدم والنهوض في مختلف المجالات، لكن هدف أمريكا الحقيقي والذي يجب أن ندركه جيداً وهو حماية مصالحها ومصالح حليفتها المدللة في المنطقة إسرائيل من خلال إدخال دول المنطقة في دوامة من الصراع والمشاكل والفتن الداخلية وخلق كيانات ضعيفة وهشة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في المنطقة بحيث تظل دول المنطقة رهينة دوماً لدعم ورعاية امريكا والدول الكبرى.. ولا تشكل مصدر خطر وتهديد لإسرائيل, بسبب انشغال هذه الدول باستمرار بمشاكلها الداخلية. فالدولة العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي تواجه اليوم تحديات كبيرة في تحقيق الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومعالجة الكثير من المشاكل والقضايا الداخلية الناجمة عن الثورات الشعبية في هذه الدول وبالطبع فأمريكا والدول ألكبري تلعب دوراً كبيراً ومهماً في هذا الجانب. والدول العربية التي لم تشهد ثورات شعبية منها دول مشغولة بمواجهه التهديدات الإيرانية لمد نفوذها في المنطقة كما هو الحال لبعض دول الخليج العربي وبالطبع فأمريكا والدول الكبرى تلعب دوراً مهماً في هذا الجانب، ودول عربية مشغولة بمشاكلها الحدودية المستحدثة كما هو الحال في دولتي السودان وجنوب السودان المنفصلتين حديثاً والذي كان لأمريكا والدول الغربية دور مهم في تحقيق ودعم ورعاية هذا الانفصال، أو دول أخرى ضعيفة أو بعيدة التأثير لمصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة ولا تشكل مصدر خطر لإسرائيل. ومن هذا المنطلق أعتقد من وجهة نظري الخاصة على الأقل أن هناك محاولات أمريكية جادة لاغتيال الربيع العربي وتحويله إلى خريف يعقبه شتاء طويل.. فعلى الرغم من دعم أمريكا في الظاهر لثورات الربيع العربي وتغيير موقفها من الحركات الإسلامية التي برزت كقوة جديدة في المشهد السياسي العربي واعتراف أمريكا بهذه الحركات والسعي إلى التعاون والتحالف معها فى إطار المصالح المشتركة بالطبع! إلا أننا نلمس اليوم واقعاً آخر للسياسة الأمريكية يقوم على تشجيع الانشطار الديني والدعوات إلى الفيدرالية في بعض الدول ودعم وتمويل مشبوه لمنظمات مجتمعية ومدنية في بعض الدول.. وهو ما قد يكون جزءاً أساسياً من متطلبات المخطط الأمريكي في حال وجود صفقة ما مع الحركات الإسلامية.. وهذا من شأنه أن يعزز استحالة توحد الأنظمة الإسلامية في رؤيا سياسية موحدة قد تشكل خطراً على المصالح الأمريكية في العالم العربي. وأمريكا لن تسير في صفقة عامة مع الحركات الإسلامية دون أن تتأكد أن عوامل الانشطار الديني والفرقة السياسية سوف تتصدران العلاقات داخل المجتمع في كل دولة عربية وبين كل دولة عربية وأخرى.. وإذا ما استعرضنا واقع الحال الذي تم ويتم في العراق ومصر وسوريا وهي دول عربية محورية، وتونس والبحرين وليبيا والأردن واليمن وهي دول عربية هامشية، لاكتشفنا أن سياق الأمور والتطورات تدفعنا دفعاً في اتجاه يعزز شكوك معظمنا في نوايا المخطط الأمريكي لإعادة تشكيل المنطقة العربية واحتوائها تحت عناوين جديدة ولكن ضمن رؤيا تعزز انشطار المجتمع والدولة على أساس طائفي أو عرقي أو كليهما. وإضعاف كيان الأمة في إطار ما أشرت إليه في مقال سابق بفكرة الشرق الأوسط الجديد الذي تنعم فيه إسرائيل بالأمن والاستقرار وتضمن من خلاله أمريكا وحلفاؤها مصالحها في بلادنا العربية ونهب خيراتنا النفطية بأقل تكلفة. *أستاذ التسويق المساعد جامعة تعز