ما بين السطور «3» القضية الأساسية التي ليست محل خلاف عند الكثيرين هي أن أحداث “جمعة الكرامة” أوجدت بداية لتاريخ يمني جديد يومه الأول 21 مارس 2011م، الذي يشكل علامة فارقة بين مرحلتين، لأنه أي هذا اليوم يحكي قصة جموع شبابية وشعبية وقفت بسلمية تريد التغيير فدهمتها يد القتل والإجرام في مشهد رهيب استفز مشاعر اليمنيين وآذى حلمهم وصبرهم وهم يرون الشمس تغرب على نهر من الدماء المراقة بدم بارد.. فكانت الانتفاضة التي غيّرت مجرى التاريخ، وكان التغيير. طبعاً الحدث في حقيقته خلق مشهدين على الساحة اليمنية يشكلان تاريخ ما بعد الحدث، وليس من العمق أن نعدهما مشهداً واحداً، لأن لكل مشهد منهما إطاره الزمني، ومستوى الإحساس عند شخوصه ودرجة فاعليتهم في صناعة حدث الانتقال إلى مرحلة جديدة. كان المشهد الأول لما بعد حدث جمعة الكرامة قد بدأ منذ ما بعد ساعة الظهيرة حين نقلت وسائل الإعلام خبر الفاجعة، وكان شخوصه هم الجماهير في الساحات وفي المنازل التي اهتزت لما حدث وأمست تعد النجوم تنتظر الصباح لتخرج في مسيرات سلمية غاضبة تناشد صوت الضمير الإنساني بأن يثأر لبضعة وستين من شباب الوطن، ليس بتقديم الجناة إلى العدالة فحسب، ولكن لإلغاء شرعية نظام حدثت في ظله هذه الحادثة، ومن الطبيعي أن لا تمر هذه الحادثة بسلام على نظام ظهر بعض من فيه بهذه الوحشية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ اليمن من حيث علاقة نظام بشعبه، أما من حيث علاقة السياسيين ببعضهم في إطار النظام نفسه فإن أسلوب التصفيات في أحداث 13 يناير في الجنوب كان بوحشية مفرطة، وفيه من التفاصيل التي هي أبشع من أن توصف بهذا الوصف. هذا المشهد الجماهيري الأول لما بعد ساعة جمعة الكرامة لقد كان حقاً مشهداً فاعلاً وعلى درجة كبيرة من الإحساس والإصرار على أن لا يكون شكل الثأر للشهداء والانتقام لسلميتهم إلا بإسقاط النظام وإحداث عملية التغيير الجذري. ويمكن القول إن الغضب الجماهيري كان من المؤكد أن يلاقي كثيراً من المتاعب والحواجز أمام تحقيق هدف الثأر والعزم على التغيير، لأن النظام تعامل مع الحدث ليس بطريقة التهوين، ولكن بطريقة طرح الأسباب والمسوغات التي كان يراها منطقية لحدوث ما حصل، وهذا معناه أن النظام كان مستعداً لرد الحجة بالحجة والمناورة حتى يكسب القضية، وأحسب أن الكثيرين لن يختلفوا معي في أن رأس النظام آنذاك لم يكن موفقاً في قراءة الحدث والتعامل مع غضب الجمهور، وذلك حين اعتمد، في خطابه في مساء تلك الليلة على لغة العقل وسرد البرهان والحجة، وأهمل لغة العاطفة واحتراق الضمير التي كان يمكن أن تؤثر في غضب الجماهير بإرسال موجات عاطفية ارتدادية قد تعدل ولو قليلاً في مسار الحدث في اليوم التالي.. هذا ما وقع فيه رأس النظام آنذاك مع أنه عرف بإجادته للخطاب العاطفي الذي كان يحقق به نجاحات كثيرة لاسيما في إبداء موقفه من أزمة الغلاء التي يعيشها الشعب والأزمة السياسية في الخلاف مع المعارضة، وغيرها من الأزمات وحتى الآن لاأزال حائراً في البحث عن أسباب فشله في إدارة ذلك الحدث مع أنه كان سياسياً ماهراً في امتصاص الغضب في قضايا خطيرة، فأنتم تعرفون كيف كان خطابه مع العالم في قضية حرب الانفصال وكيف كان خطابه مع اليمنيين في أحداث الحجرية وفي أحداث بعض القرى في مأرب، وفي حادث الاستاد الرياضي في إب إبان الحملة الانتخابية في 2006م حين راح ضحية الفساد والنهب و”الكلفتة” قرابة خمسين فرداً قضوا نحبهم تحت أحد جسور الملعب بدم بارد، مع أن هذا الحدث لو كان في دولة أخرى وجرى التحقيق في أسبابه وتبين أن الفساد هو السبب لكان كافياً لإسقاط نظام بكامله.. أليس من غشّ وأفسد وجازف بحياة الناس وكان سبباً في الموت لخمسين منهم كمن وجّه رصاصة القتل وقتل خمسين منهم أيضاً؟! المهم أن الجماهير في ما بعد ساعة جمعة الكرامة وحتى قرابة العاشرة صباحاً من نهار اليوم التالي “السبت” كانت في مستوى المواجهة مع نظام متماسك سياسياً وعسكرياً لم تتوافر الظروف بعد لانهياره أو حتى تهديده بالانهيار، ولكن كان مقدراً أن تتغير صورة الواقع بالانتقال إلى مشهد جديد عزز المشهد الجماهيري ومنحه نفسياً قبل كل شيء إمكانية الوصول إلى إسقاط النظام وإقامة آخر مكانه. كان هذا المشهد الجديد قد بدأ في صباح السبت بإعلان اللواء علي محسن قائد الفرقة الأولى مدرع قائد المنطقة الشمالية الغربية انشقاقه عن الجيش اليمني وتأييده سلمياً للثورة الشبابية الشعبية السلمية، وهذا المشهد لم ينتهِ بعد، إذ سيظل مستمراً حتى إعادة هيكلة الجيش والدخول في حوار وطني يخرج بنتائج تصالحية إيجابية. لكن ما الذي صنعه هذا المشهد؟ وما مستوى تأثير شخوصه في مسيرة الثورة الشعبية السلمية، وأين موقع النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والحقوقية فيه؟ وكيف لنا باختصار أن نقرأ حقيقة هذا المشهد بإنصاف ومعقولية بعيداً عن المكايدة ونزعة الكراهية والانتقائية التي تتعامل بها بعض الكتابات والآراء؟! إن أول ما يمكن قوله في هذا الجانب هو أن الفعل الذي قام به اللواء علي محسن ومن معه قد منح ”النخب” السياسية والثقافية فرصة ذهبية لم تكن تحلم بها للالتحاق بالصف الجماهيري، لأنها أدركت أن رحيل النظام بات أمراً محققاً بعد الانشقاق الكبير الذي هزّ أركان النظام وقرّب مسافات انهياره، نقول هذا لأن الموقف النخبوي فيما بعد ساعة جمعة الكرامة شهد مرحلتين لا يمكن لأحد نكران إحداها: المرحلة الأولى تبدأ بذيوع خبر حادث الكرامة عبر وسائل الإعلام وتستمر إلى الليل وتنتهي قبيل الظهيرة، أي قبل إذاعة بيان الانشقاق، والحق أن النخب في هذه المرحلة القصيرة سادت فيها حالة الوجوم، فقد مرّ ليل الجمعة بدون مواقف عملية تقدم عليها النخب إلا من التعليقات والضجيج الإعلامي الذي مضى كعادته يشجب ويستنكر ويندد.