فُلتُ في مقالة سابقة إن بيان الانشقاق العسكري بعد جمعة الكرامة كان قد غيّر المعادلة ليس فقط باتجاه وصول نظام قادم محل نظام قائم، ولكني أيضاً باتجاه إعادة ترتيب وضع النُخب السياسية والثقافية، وذلك حين منحها الفرصة الذهبية للالتحام الحقيقي بالصف الجماهيري التي ظلت منقطعة عنه في الحين الذي تدعي أنها تتمركز لصالحه وتعمل أجله. وسأقول اليوم إن هذه النخب لولا بيان الانشقاق الكبير لظلت تُعاقر السلبية حيال التغيير الذي ينشده الجمهور لتنشيط الحياة وإصلاح أوضاعها، فقد انتقلت كثير من النخب من مرحلة الصمت وانتظار المنتصر إلى مرحلة الدخول في العمق لحسم الخلاف عبر موجة عارمة من المواقف الصريحة والجريئة التي انهالت على إثرها أخبار الاستقالات من المناصب والوظائف العليا كالمطر، وحينها بدا النظام في مأزق سياسي بعد دخوله في المأزق العسكري الخطير، ولهذا فلا محيص من القول: إن بيان الانشقاق العسكري أحرق المراحل الموصلة إلى نقطة التغيير، وأعطى للمطالب الجماهيرية زخماً وزادها حماساً، ومنحها الأمل بتحقيق طموحها في الثأر لشهداء الكرامة وتدشين مرحلة التغيير الشامل. وهدفي من هذا القول هو أن أطرح أمام الجميع ضرورة أن تكون قراءتنا لمشهد ما بعد جمعة الكرامة قراءة صحيحة وعميقة ومنصفة، لا قراءة همّها طمس الحقائق في سبيل إرضاء الأهواء والرغبات، لأن المستقبل يحتاج إلى الأفكار الصادقة والعقول التي تؤمن بمبدأ التعاون والتكاتف من أجل صناعة مستقبل مشرق على قاعدة الديمقراطية التي ليس فيها إقصاء أو تهميش لأي قوى وطنية همّها خدمة المصلحة الوطنية. والبعض سيقول إن اللواء علي محسن له ماضٍ طويل مع النظام، وقد كان أحد ذراعاته التي امتدت لتأخد ما هو حق لهذا الشعب المغلوب على أمره، لكن الجواب أن علي محسن سجل موقفاً مهماً خدم النخبة قبل الثورة ، وهي حقيقة ينبغي على الأقلام التي تنمّزت اليوم لتُدخل في حديقة الثورة من تريد وتُخرج من تريد, متنكرة للموقف الشجاع الذي اختصر الطريق إلى الحل, ولو لم يحدث ذلك فلربما أصبحنا اليوم في وضع مشابه لما يجري اليوم في سوريا. أما قضية المخالفات وملفات الفساد فإن هذا الجانب له رفوف عظيمة تحتوي أعداداً مهولة من الشخصيات التي عملت مع النظام وأفسدت واستغلت السلطة لمصالحها الذاتية, وإن كان علي محسن واحداً من هذه الشخصيات فإن للثورة قضاءها المنتظر بعدله وحياديته وإنصافه للشعب ممن أخذوا حقه. هذا إذا كان التعامل بمنطق الحقوق والعدالة ومحاسبة الجميع, أما إذا كان التعامل بمنطق الثوار أنفسهم وقادة العمل الثوري من السياسيين فإن الأمر مختلف, فأنتم سبق أن تعاملتم مع من أعلن استقالته وتأييده للثورة الشعبية كمن شهد بدراً, له ما لكم وعليه ما عليكم، والواقع يقول إنكم قد أضربتم صفحاً عمن سجل موقفاً فيما بعد جمعة الكرامة وانسحب من دائرة النظام, مع أن البعض من هؤلاء عليه قضايا فساد, بل والبعض له تاريخ أسود في إشعال الفتنة ومحاربة الوطن وممارسة الفساد ونشره وتعميمه على معظم الدوائر الحكومية. إذن لا يصح أن يكون تعاملنا مع مشهد ما بعد جمعة الكرامة بمعايير مزدوجة, نقبل هذا ونرفض ذاك, ليس لشيء إلا لأننا أصحاب ثقافة انتقائية تقرأ الأحداث بحسب الميول والأهواء وليس بحسب الواقع والموضوعية. أقول هذا لأننا نرى اليوم ما بين السطور متخماً بعبارات وأفكار يقف أصحابها على باب الثورة يفتحون لمن يريدون ويغلقون أمام من يريدون, لاسيما أن بعض هذه الأقلام مخضرمة, والأجدر بها أن تقرأ الواقع بعمق ولا تنشغل بترديد ما يقال. إنني هنا لست في مقام الدفاع عن هذا أو ذاك, ولكنني أدعو أولئك الذين يقفون على أبواب الثورة ويريدون أن يفصّلوها على مقاسات معينة, أدعوهم إلى الاهتمام بما ينفع الناس وهو تكريس الجهد وتكريس رأي شعبي يوصلنا إلى إيجاد قضاء عادل ونزيه يحتكم الكل إليه بلا استثناء, أما في موضوع الشراكة المستقبلية وعدم الإقصاء فإن تفاصيل ما بعد جمعة الكرامة جمعت الكثير من الأطياف على مائدة واحدة، فلا تعطوا شرف الثورة للبعض وتحرموه بعضاً آخر, أما من هو الأجدر بثقة الشعب في تسيير المهام ومواجهة المستقبل فإن الديمقراطية المنتظرة في قابل الأيام هي الكفيلة بالفصل في هذا النزاع, فهي التي ستقرّب إلى الشعب من تريد, وستستبعد من تريد, وما أحسن أن نعيش الديمقراطية ونؤمن بها فكراً وسلوكاً.. وما أسوأ أن نكون من دعاة الديمقراطية والمتشدقين بها ونحن نتعامل بخطاب إقصائي وانتقائي وغير ديمقراطي يكشف للجمهور أننا لسنا أكثر من قشور وديكورات.