الذين يتحدثون عن شكل الدولة القادمة في اليمن أو في بلدان الربيع العربي بعد التغييرات التي طالت تلك البلدان أقول لهم إن منْ يسمعكم تتحدثون عن احتمالات شكل الدولة القادمة دينية أم مدنية يظن أنه لا يوجد لدى هذه البلدان لحد الآن شكل للدولة وكأنما الأنظمة التي كانت حاكمة كانت قائمة على مجموعة مدن متراصة عبر الحدود السياسية وليس هناك دستور ولا هيئات حكومية ولا... ولا... عفواً هذا إجحاف وإعادتنا إلى زمن الاستقلال من الاستعمار الخارجي إن وجد بل حتى الاستعمار نفسه أوجد نمطاً معيناً للدولة في تلك البلدان التي دخلها فمصر مثلاً صدر دستورها عام 1923م أيام الاحتلال الانجليزي لها ثم لحقته التعديلات عبر الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 52. فالنمط أو الكل القائم عليه الدولة موجود، فما المبرر للحديث عن الدولة الدينية أو الدولة المدنية وغيرها؟ أما حكاية الدساتير المطلوب تغييرها المطلوب هو تعديلها فقط وليس نسفها تماماً لأن التغييرات المطلوبة ستطال تلك المواد التي (حورتها) الأنظمة السابقة لمصلتحها. فالدستور عندنا في اليمن من أفضل الدساتير الموجودة ولا ننسى أننا توافقنا عليه نحن اليمنيين عند قيام الوحدة المباركة عام 1990م وما لحقته من تصويتات حول بعض المواد (الشائكة)، لكننا في نهاية المطاف انتصرنا لهويتنا العربية الإسلامية في مواده، فهل يظهر الدستور شكل الدولة أم لا؟ إن دولنا العربية لم ولن تنفك عن هويتها العربية الإسلامية رغم قبول بعض تلك الدول لأنماط غربية لديها لكن الهوية الأصلية لها لا يمكن أن تفرط بها لذا صبغت دساتيرها بتلك الهوية الخالدة. وخلال القرن المنصرم قدّم المفكرون العرب المسلمون (روشتات) جاهزة لمشاكلنا الحضارية مبثوثة في كتبهم وأبحاثهم المنشورة، فلسنا اليوم في حاجة لأن نبدأ من جديد في التنظير والأخذ والرد في مواضيع قد تم دراستها مسبقاً من مفكرين مبدعين قدموا فيها آراء منوعة تحفظ للأمة هويتها في زمان العولمة، لكن ليس معنى هذا أني أحظر على أحد أن يفكر أو يبدع أو يبتكر ما شاء من مشاريع يراها مناسبة من مفكرينا أو أحزابنا السياسية، لكني أدعو لكل الذين يريدون أن يفعلوا ذلك أن لا يبدؤوا من نقطة الصفر بل يستندوا إلى أعمال قد غربلت وقننت ما يريدونه من أفكار حول شكل الدولة وهويتها.. فمفكر مثل الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله تعالى قد شرّح العقل العربي وفنّد ووضح طريقة تفكيره ومشاكله وقدم لذلك حلولاً في عمله النفيس (بنية العقل العربي) في أجزائه الأربعة، في حين قدّم الدكتور محمد عمارة نماذج وآراء للإسلام الحضاري والملابسات التي تمس نظام الحكم في أشكاله المتعددة، ولعل كتابه (الإسلام وفلسفة الحكم) يمثل حجر الزاوية، وكذلك ما قدمه الدكتور عبدالرزاق السنهوري رحمه الله تعالى حول إسلامية الدولة وأحكامها، إلى جانب دراسات المستشار طارق البشري وحسن حنفي وآخرين من المفكرين المبدعين الذين تقدم أعمالهم إجابات لكل ما يدور في أذهاننا من تساؤلات حول نمط الدولة وأشكالها في عالمنا العربي، هذه التساؤلات التي تعيدنا إلى بدايات القرن العشرين في زمن التأسيس لدول لم تكن لها خارطة سياسية واضحة ولا موضع قدم على الساحة الدولية، وأنا لا أستغرب لذلك من أمة كأمتنا فقدت ذاكرتها ذات يوم؟!