كان زينغو برينجسكي مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق للأمن القومي يتحدث لمجلة (لانوفيل اوبسرفاتور) الفرنسية عن التدخل الأمريكي في الحرب السوفيتية الأفغانية عندما سأله الصحفي ، هل تعرف انكم أعطيتم السلاح للإرهابيين الذين أصبحوا أعداءكم، وأنكم خلقتم بذلك (الإرهاب الإسلامي).. أجاب برينسكي: أيهما أفضل للغرب انهيار الاتحاد السوفيتي ام ممارسة الإرهاب بواسطة الجماعات الإسلامية، أيهما اخطر على الغرب طالبان ام الاتحاد السوفيتي. كمستشار سابق للأمن القومي يكشف برينجسكي عن جوانب خفية في العلاقة الملتبسة والغامضة بين أمريكا والقاعدة ، فرغم ان الولاياتالمتحدةالأمريكية دعمت الجهاديين الإسلاميين بالمال والسلاح ضد الاتحاد السوفيتي ، الا أن صلات الود بينهما لم تدم ، لتتحول الى الضد ظاهريا على الأقل بعيد معركة تحرير الكويت من الغزو العراقي واستحداث أمريكا لقواعد جديدة في منطقة الخليج العربي ، جعلت تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لا دن يشن هجوما على إحداها في منطقة الخبر بالسعودية، تلتها سلسلة هجمات على أهداف أمريكية في نيروبي ودار السلام حتى كانت حادثة تفجير برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001 التي تبنتها القاعدة .. إيذانا بإعلان الولاياتالمتحدة الحرب على الإرهاب كعدو جديد ورئيسي لها .. مجسدة مبدأ براجماتياً تبلور في ذهنية مخططي الإستراتيجية ومنظري العلاقات الدولية الأمريكية الهادفة الى خلق عدو حقيقيا كان ام وهميا .. وصناعة العدو مبدأ برجماتي للقوى العظمي عبر التاريخ ، والولاياتالمتحدة آنذاك أحوج ما تكون اليه ، فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي في يناير 1991م، العدو التقليدي لها، شهدت الساحة العالمية فراغا سياسيا يفترض ان تعم معه مظاهر السلام والأمن بديلا عن حالة الصراع والحرب وان كانت باردة بين قطبي العالم .. فيما الولاياتالمتحدة لا تزال قوة عظمي وبحاجة لممارسة هذه القوة لفرض هيبتها وهيمنتها على مقدرات الشعوب وثرواتها خاصة مصادر الطاقة ، وتريد تبريرا لامتلاكها ترسانة هائلة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.. وفوق كل ذلك ترغب في حشد وتعبئة وتوحيد الرأي العام المحلي تجاه عدو وان كان مصطنعا وهميا، وتزداد الحاجة عندما تعاني القوة العظمي ذاتها من مشاكل اقتصادية واجتماعية داخلية ففي تسعينيات القرن المنصرم وصلت البطالة والفقر والجريمة فيها مستويات قياسية .. في تلك الفترة ، بعيد انهيار المنظومة الشيوعية ، انهمك منظري البراجماتية في أمريكا في محاولة صناعة عدو جديد ، بدأها صامويل هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات) لتتوالى المؤشرات على ان العدو الجديد للغرب هم العرب والمسلمون.. غير ان العدو لا يزال هلاميا وتخيليا ونظريا لم يكتسب بعد سمة واقعية تجعل الحرب عليه واستهدافه مبررة أخلاقيا، حتى جاءت المصادفة إن كانت حقا كذلك في الحادي عشر من سبتمبر ليصبح العدو مجسدا وحقيقيا ، وللطرف الآخر كامل الحق في محاربته .. فبدأت القوة العظمي الوحيدة في العالم حربها ضد الإرهاب مختزلةً إياه في تنظيم القاعدة ، تمخض عنها احتلال أفغانستان والسيطرة على العراق البلد الذي يحوي اكبر احتياطيات النفط العالمي ، في حين نشط الاحتلال في زيادة قواعده العسكرية في المنطقة العربية وعلى مرمى حجر من عدوه التقليدي السابق .. أما فاتورة الحرب فهناك من تكفل بها، ورفد الخزينة بمليارات الدولارات من مبيعات الأسلحة ، ناهيك عن أموال أخرى تدفقت في شرايين الاقتصاد لتعيد العافية إلى جسد العم سام. قد يكون في تزامن تبني القاعدة لهجمات سبتمبر مصادفة وفرت للولايات المتحدة عدوا تبحث عنه ، والمصادفات عموما هي التفسير الجاهز وفق الرؤية العرضية للأحداث المتجاوزة لقوانين السببية.. وهي النقيض أيضا للرؤية التآمرية للأحداث .. لكن هل ثمة مصادفة في ان يتجاوز الاقتصاد الأمريكي محنته ويحقق معدلات قياسية في النمو ، وترتفع معدلات الاستهلاك للمواطن الأمريكي في العشر السنوات اللاحقة للحرب على الإرهاب.. ام الأمر نتيجة منطقية لزيادة الهيمنة الامبريالية على مقدرات وثروات الشعوب في تلك الفترة ، حيث يستهلك الأمريكيون بمفردهم 40 % من الموارد والثروات الطبيعية التي منحها الخالق لكافة بني البشر .. لا لكونهم بلداً صناعياً تقنياً فبلدان آخرى تفوقها في ذلك ، بل لأنها تتوسل القوة الغاشمة للوصول الى مبتغاها. هناك أحداث شتى ، يعجز العقل البشري عن تفسيرها منطقيا استناداً الى قوانين السببية ، ليحيلها الى المصادفات ، غير ان كثير من الأحداث لا تصلح المصادفات لتفسيرها ، فيما لا تقدم التفسيرات العقلية تبريرا منطقيا لها، سيما وهي تسير عكس التتابع المنطقي للأحداث .. والعلاقة الغامضة بين أمريكا والقاعدة من تلك القضايا التي لا نجد تفسيرا لها عقلا ومنطقا .. فهي في الظاهر علاقة عداء صريح وحرب شعواء متبادلة، إلا أن ما يتولد منها ، وما ينتج عنها يصب في صالح الولاياتالمتحدة ذاتها لا في صالح الشعوب العربية الإسلامية التي تدعي القاعدة حماية مصالحها من التغول الأمريكي .. والشواهد كثيرة ، بإمكان أي متابع حصيف ان يحصي مكاسب الولاياتالمتحدة من هكذا علاقة ، في مقابل (مكاسب ) العرب المسلمين إن وجدت.. ان غموض العلاقة تجد تفسيرها فقط في الأجندة الخفية الغامضة للمخابرات الأمريكية و حلفائها ، ما يجعل الرؤية التآمرية للأحداث وحدها الناجعة في شرح غموض كثير مما يحدث في المنطقة العربية ويعزز نظرية المؤامرة .. سيما ان كثيراً من عمليات القاعدة بعد أحداث سبتمبر 2001 أضحت تجري على الأرض العربية والإسلامية في مقابل عدد محدود من العمليات تستهدف مصالح غربية في معظمها فاشلة ، ولم تعلن نتائج التحقيق عنها بشفافية.. ضدا على ذلك تتزايد عمليات القاعدة في البلدان العربية ، وما يثير الريبة تزامنها كلما لاحت مؤشرات للانفراج السياسي فيها .. وتصاعدها عندما يكون هناك تهديد بوصول الإسلاميين المعتدلين للحكم .. وهي قوى غير مرغوبة من الولاياتالمتحدة وان أظهرت خلاف ذلك. في مصر بعد ثورة يناير 2011م ، وبعد حل جهاز أمن الدولة القمعي، وظهور الآمال في نشوء دولة المؤسسات نجد منشورات القاعدة منتشرة في العريش تطالب بإقامة دولة إسلامية في سيناء. اليمن شهدت مع تفجر الثورة الشعبية تزايداً عنيفاً لنشاطاتها وتوسعها في محافظات عديدة واستهدافها لمدنيين وعسكريين في ثكناتهم، ولا يكاد يمر يوم دون معارك (جهادية) لها ودون ان تعلن إمارة إسلامية هنا او هناك .. إمارة عزان الإسلامية وقبلها شبوة وزنجبار تمثيلا لا حصرا. والحال ذاته في العراق كانت تعلو هجماتها وأصوات انفجاراتها ربما للتغطية على الأصوات المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية .. . وقبلها سالت دماء الجزائريين انهارا بعد فوز الإسلاميين في انتخابات 1992م.. المؤشرات تلك لا تكشف بجلاء عن تماهي القاعدة مع المصالح الأمريكية .. إلا ان التحالف الأمريكي القاعدي لإسقاط النظام السوري بغض النظر عن موقفنا منه لا يمكن أن تخطئه العين كونه ظاهرا غير خفي او مستتر.. فمجاميع القاعدة لا تنفك تزحف على سوريا مدعومة بالمال العربي والسلاح الأمريكي من جاراتها ، لبنان وتركيا والعراق... في صحيفة (الصنداي تايمز) كتب بيتر أوبورن عن التحالف بين بريطانياوأمريكا والقاعدة لإسقاط نظام بشار الأسد والنفاق الأمريكي في التعامل مع باكستان والسعودية .. يقول: ان الولاياتالمتحدة تتذمر طوال الوقت بسبب افتراضها وجود علاقة بين الاستخبارات الباكستانية وطالبان، لكنها لا تتذمر مطلقا من وجود علاقة بين الاستخبارات السعودية والحركات السلفية في الشرق الأوسط التي تنتمي الى نفس منبع القاعدة. وحينما تتكثف المؤشرات على الأجندة الخفية للمخابرات الامريكية واستغلالها لشباب مسلم يفتقر لوعي سياسي ، في تحقيق غاياتها في خلق الفوضي والاضطرابات ، وتحويلهم الى فزاعة ترهب بها الأنظمة الرابضة على مخزون هائل من النفط والتوسع في انشاء قواعد لها حماية لمصالحها وأمن اسرائيل.. يصبح من الضرورة بمكان التيقظ والحذر من هكذا سياسات تمكنت بدهاء وخبث من صناعة عدو وهمي وتضخيمه إعلاميا ليصبح ورقة بأيديها للعب بها.. سيما والعدو هنا ضعيف بإمكانها إسقاطه متى أرادت.. ولفهم الأجندة الخفية في العلاقة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وتنظيم القاعدة ينبغي التمييز بين فصيلين ومرحلتين مر بهما التنظيم (الجهادي) : الأولى بدأت رسميا بإعلان التنظيم عن نفسه العام 1988م بزعامة أسامة بن لادن متخذا أفغانستان مركزا رئيسيا له ..وإن تولد قبل ذاك من رحم الحرب الأفغانية السوفيتية ، حينما كانت أمريكا تدعم الأفغان العرب بالمال والسلاح في حربهم المقدسة ضد السوفييت.. وبعيد معركة تحرير الكويت تحولت العلاقة الى الضد كما اسلفنا بتبني التنظيم سلسلة عمليات استهدفت المصالح الأمريكية في بقاع شتى من العالم ، بل في عقر دارها كما في ايلول / سبتمبر 2001م عندما هاجمت أهدافا أمريكية في واشنطن ونيويورك.. هذا الفصيل أكثر وضوحا في عدائيته الصريحة للولايات المتحدة.. أما الفصيل الثاني والمرحلة الأخرى تبدأ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. ويتكون من مجاميع مسلحة عديدة منتشرة في جزر متناثرة من العالم لا يربطها ببعضها ولا بالمركز الرئيسي في أفغانستان سوى نقاط تماس محدودة مع الخط الفكري العام للتنظيم، بسبب عزلة المركز وقياداته في أفغانستان بعد الاحتلال الأمريكي .. هذا الفصيل بالذات يسير وفق أجندة خفية لا تصلح معها قوانين العقل وتحليلاته في سبر أغوار علاقته بأمريكا إلا وفق نظرية التآمر والأجندة الخفية للأجهزة المخابراتية ، فمعظم تحركاته ونشاطاته تجري على الأرض العربية مستهدفة مصالح محلية لا غربية .. وإن حاول تنفيذ هجمات ضد أهداف غربية الا أن معظمها باءت بالفشل ، مثل محاولة تفجير طائرة ركاب من قبل النيجيري عمر الفاروق او كقصة الطرود البريدية المفخخة التي كشفت قبل حدوثها.. في المرحلة الثانية للتنظيم أصبحت اليمن بؤرة استقطاب مجاميع عدة من القاعدة نزحوا اليها من أفغانستان ومن بلدان إقليمية مجاورة ليعلنوا إنشاء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب .. ومنذ العام الماضي وتزامنا مع الثورة الشبابية السلمية في اليمن ظهر فصيل آخر في اليمن يسمي نفسه ب (أنصار الشريعة ) لا تعرف له قيادات محددة ولا أهداف واضحة سوى انه ينشط في مساحة جغرافية هي مسرح احتجاجات الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال، ومن المفارقات ان جماعة أنصار الشريعة استطاعت ان تفرض وجودها في مدن رئيسية للجنوب حيث للدولة وجود قوي ، فيما فشلت في السيطرة على المناطق الريفية حيث للحراك والقوى الشعبية تواجد أقوى.