اتضح في هذه الآونة أن الخطاب الإعلامي الثوري يتشرنق في منطق واحد، يتمثل في إطلاق مسمى “النظام العائلي” على أسرة رآها عقبة أمام المستقبل المنشود، وتحت هذه الفكرة ذهب يستنسخ قوالب لفظية من مثل ”جيش العائلة” و”إعلام العائلة” و”أنصار العائلة” و”بقايا العائلة” ...إلخ. وفي رأيي أن في هذا الخطاب تسطحياً للفكرة الجوهرية المتعلقة بقضية اختباء مكونات الدولة في دهاليز “العائلات السياسية القابضة” التي أصبحت تتوارث الدولة وتتحكم بمسارها بدون أن يكون ثمة صلة للهيمنة القبلية، لأنها عائلات رسمت لنفسها خطاً مدنياً سارت عليه وعرفت به ومضت منذ الستينيات والسبعينيات وحتى اليوم تتحرك بمزاج إمبريالي تعدت من خلاله إلى السيطرة على مفاصل السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية حتى أصبحت هي بيوتات الدولة التي تنسجم مع بعضها ويخسر من يواجهها، ولا يخيفها أن يتغير شكل النظام أو أن تقوم ثورة شعبية لأنها في المحصلة الأخيرة هي الشعب بصورته الرسمية مادام الشعب اليمني بكثرته الكاثرة عبارة عن مواطنين بسطاء يسعون في الأرض ويأكلون من رزق الله، ولا تربطهم بالدولة إلا فواتير الخدمات، ومن تعلّم من هؤلاء وأراد الوظيفة فليس ما يحقق له هذا الحلم إلا الاستعانة بإحدى “العائلات القابضة” .. وتوظيفها له يمنحها القوة وزيادة النفوذ والتحكم بصناعة القرار. ومثلما عاش إنسان القبيلة تحت رحمة الشيخ على طريقة “اللهم ارزق الشيخ ليشتغل ابني عنده”، فإن إنسان المدينة والريف غير القبلي لا يجد باباً لدخول الوظيفة إلا من باب المدير صاحب القرية أو الحارة، أو المدير القريب في النسب والمصاهرة أو ما شابه.. وهذا الأمر يجري بإيقاع مشابه لإيقاع ثنائية “القبيلي والشيخ” على طريقة مفادها “اللهم مكن المدير الفلاني وطوره في المنصب ليوظفني في أي مرفق”. وإذا كان هذا الإنسان موظفاً وأراد جني المكافآت والمشاركة في حصص التقاسم أو كان صديقاً للمدير وعنده رأسمال وأراد تحقيق الأرباح والاستئثار بالمشاريع والصفقات فإنه يدعو الله أن يمكن المدير ويمنحه الجاه والقبول لتمرير ما فيه فائدة لهما، وأن يجيرهما من تقارير الرقابة وأعين الحساد.. وهذا وأمثاله يدعون الله بأن يولي على أمور مؤسساتنا فلاناً من آل فلان أو من بيت فلان أو منطقة فلان، وأن لا يولي عليها من أهل النزاهة والكفاءة والخبرات ومحبي النظام والقانون ومحاربي هيمنة العائلات المتوارثة للمناصب ومواقع صنع القرار، فإن أهل النزاهة يقفون حجر عثرة أمام تدفق سيل الأموال إلى الجيوب، وإذا ظل المسئول النزيه صامداً فإن إخطبوط “العائلات القابضة” لا يمل من تجريب كل التدابير والوسائل لإزاحته من مكانه. إن مشكلة اليمن ليست في وجود عائلة سنحانية قابضة على زمام السلطة، وإنما هي في هيمنة عائلات متمدنة قابضة على مفاصل السلطة في القضاء وفي الوزارات السيادية وغير السيادية، وفي أماكن حكومية كثيرة ولاتزال تحبط أية مساعٍ من أي وطني شريف لتحقيق العدالة وتطبيق القانون، وهذه هي القضية التي ينبغي أن ينظر إليها الشباب والجماهير الثائرة بعمق وبحث كيفية مواجهتها إذا نحن بالفعل نريد الوصول إلى الدولة المدنية الحديثة، دولة العدالة والمواطنة المتساوية. إن التغيير الحقيقي لايكون بإزاحة أربعة أو خمسة أفراد من عائلة سعت ونافست “العائلات الأخرى” القابضة والكاتمة لأنفاس الوطن، حتى وصلت إلى قمة الهرم في السلطة وعملت ما بوسعها من أجل الحفاظ على هذا المركز، ليس هذا هو التغيير الحقيقي وحده وإن كان قد نتج عنه إسقاط نظام، لأن الدولة بمفهومها الحديث التي أرادتها الحركة الوطنية منذ أربعينيات القرن المنصرم، لم نصل إليها بعد، وماهو موجود اليوم ليس سوى وجود شكلي لدولة قُتلت روحها، ولن يكون قاتلها الوحيد هو تدخل القبيلة في شئون السياسة كما يرى البعض، وإنما هو أيضاً معسكر النخبة التقدمية التي أطّرت نفسها ظاهرياً في أحزاب ومنظمات وجمعيات ونقابات وغيرها، مع أنها في الباطن ليست إلا نخباً مؤطرة في “عائلات قابضة ومتمركزة” تتوارث الإدارة كابراً عن كابر، وتتعامل مع الوظيفة العامة بأسلوب التمفصل والسيطرة، وهذا هو السر الذي يكمن وراء قناعة اليمنيين حين يقولون: إن ثورة سبتمبر أطاحت بإمام واحد وجاءت بألف إمام. وإننا لو حاولنا أن نسوغ هذا الانتكاس الذي صنعته النخبة المستنيرة فسنقول: إن هذه النخبة استخدمت في بداية نشوء الدولة أسلوب التواجد العائلي المتمفصل في أماكن صنع القرار لمواجهة عجرفة القبيلة بمثل أسلوبها في الهيمنة والتدخل والتحكم، وهذا صحيح، ولكن ما برح الأمر أن تغير عندما تحولت العشيرة القابضة إلى قوى ترى أنها هي الدولة نفسها لا القوانين والأنظمة والتشريعات. وختاماً نقول: إذا كان اليوم قد جاء هذا الفعل الشعبي الشبابي ونجح في إزاحة “نظام العائلة” فهل يكون في ذهنه ارستقراطية المؤسسات والوزارات والهيئات وغيرها من المرافق الحكومية، التي سقطت منذ عشرات السنين في أيدي العائلات والعشائر القابضة والمتوارثة للسلطة؟ وهل يستحق هذا الفعل الجماهيري أن نسميه “ثورة شعبية” إذا استمر يتحرك بفكر سطحي يوقفه عند حدود تغيير شكل النظام وإسقاط حكم أبرز العائلات وأعظمها سلطة في اليمن؟ وإذا كان في وعي الشباب هذه الفكرة فما هي وسيلتهم لإتمام ثورتهم بإسقاط حكم العائلات التي تفرق دم الدولة اليمنية بينها..؟ هذا ماستتناوله في مقالة قادمة..