لم تتخلى حركة الأحرار عن قدرها في النضال حتى بعد فشل ثورة 1948م واستمرت تعارض أوتوقراطية نظام الإمامة وحكمها الفردي عن طريق التقدُّم باسم الشعب بوثيقة مطلبهم الصادرة بتوقيع الزبيري والنعمان عام56م وبرؤيتهم في إعادة تنظيم الدولة على أُسس اللامركزية في الحُكم والأخذ بالأساليب الحديثة التي تستلزم توزيع الاختصاصات بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية خاصة أن ظروف اليمن تفرض الأخذ بهذا النظام الذي عرفته اليمن تاريخياً منذُ عهد الإمام الهادي الذي وضع اللبنة الأولى في صرح اللامركزية وحتى في فترة الإمام يحيى عندما دعا اليمنيين إلى مقاومة الأتراك وأعلن تعهُّده بأن يحكُم أهل كُل منطقة أنفسهم بأنفسهم لكنه تخلَّى بعد انتهاء الحرب وخروج الأتراك من اليمن متخذاً أسلوب المكر والخداع والمراوغة في التنصُّل عن الوفاء بتعهُّده بتطبيق اللامركزية وممارسة الشعب للحكم المحلي الذي لم يكن جاداً فيه متمسكاً في الوقت نفسه بمركزية الحكم وسلطان الحاكم الفرد بشكله الأوتوقراطي المستبد الذي كلف اليمن الكثير من الثورات والدماء والحروب على مدار القرن العشرين. ولا شك أن اليمن كانت بحاجة إلى نظام حكم محلي بمزاياه الحقيقية وصلاحياته الكاملة حتى يمكن الحد من مشكلة الحكم والإدارة في اليمن القائمة على تجميع السلطة في يد واحدة فيما يسمى تجاوزاً بالحكومة.. مما يفترض معه ضرورة تطبيق نظام اللامركزية في الحكم الذي يستلزم توزيع الإختصاصات بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية المنتخبة.. فقد أصبح نظام الحكم اللامركزي وممارسته في حياة العصر يتمثل في الوجه البنياني التحتي الديمقراطي فيما يشبه التناسق الغريزي بين مناطق البلاد المختلفة بأبعادها الجغرافية والمناخية وعادات السكان وبخصوصيتها في إدارة شئون نفسها المستمدة من قاعدة الحق الطبيعي وهو أمر له أهميته في ضمان عدالة توزيع خيرات البلاد بما يزيد من تعميق الشعور بوحدة الشعب وإزالة الأسباب النفسية والإدارية والاجتماعية والمذهبية والقبلية التي نمت وترعرعت في ظل الحكومات المتلاحقة وسلطانها المركزي المطلق. فإذا كانت اللامركزية جزءاً لا يتجزأ من ديمقراطية الحكم وشعبيته.. وشكلاً مسانداً ومتمماً لها في القضاء على الفوضى والاضطراب وبطء التنفيذ بسبب بعد الحكومة المركزية وانشغالها عن الشئون المحلية للأقاليم ومشاكلها المختلفة.. فيما أن تطبيق اللامركزية يبدو بدون شك أكثر قرباً إلى إشراف الشعب ورقابته على السلطات المحلية. الأمر الذي يترتب عليه انتظام هذه الشئون وسهولة حل مشاكلها والإسراع في إجراءات تنفيذها. إن مبدأ الديمقراطية يعني في جوهره حكم الشعب.. وكل شعب يرغب أن يحكم نفسه بنفسه ويتطلب بأمانيه في أن يكون حكامه مهما صغروا على صلة بمشاكله وقضاياه.. ومن اختياره الحر الذي لا يتحقق إلا بممارسة حقه الدستوري في انتخاب وتشكيل السلطة المحلية بوعيه وإرادته بانتخابه الحر والمباشر لمحافظي المحافظات ومديري المديريات وانتهاءً بأعضاء مجالس المحافظات والمديريات.. الأمر الذي يغرس في نفوس سكان مناطق الحكم المحلي الشعور بمسئولياتهم الوطنية والقومية من ممارسة مالهم من حقوق.. وتقبل ما عليهم من واجبات منبثقة عن إرادتهم بكل رضا وقناعة.. فأهل كل إقليم أعرف بمصالحهم وأقدر على التعامل معها مما يوجب ترك شئون كل إقليم لإدارة سكانه الأمر الذي يؤدي بكل إقليم إلى بذل المزيد من نشاطه وجهوده على جميع المستويات مما يدفع إلى تحقيق مزية التسابق بين مختلف أقاليم السلطة المحلية في مجالات الصحة والبيئة والتنمية والعمران. أن اللامركزية تعني في جوهرها وجود مصالح محلية تهم هذا الإقليم أو ذاك دون سائر الأقاليم.. فأهل كل إقليم أعرف بمصالحهم وأقدر على تحقيقها من غيرهم ، وأن تفاوت الأقاليم في الطبيعة والمناخ وما يترتب على ذلك من تعاون في تقاليد السكان وأمزجتهم ورغائبهم يوجب ترك الشئون المحلية في كل إقليم لسكانه يديرونها بملء إرادتهم وحريتهم تحت توجيه الحكومة المركزية وإشرافها ، ولا يمكن أن ننسى ثمة مايعكسه إنتخاب السكان لحكامه المحليين من الإحساس بالحرية وما يطبعه في نفوسهم من شعور العزة –والكرامة وما ينشره بين الناس من فهم الأمور العامة ووعي بالمسائل القومية ذلك أن الأخذ باللامركزية في اليمن جدير بالقضاء على الظلم والكراهية والنفور والأحقاد التي زرعتها السلطة المطلقة في نظام الحكم السابق .. بل والخروج بالبلاد إلى عهد تسوده الحرية والإخاء والمساواة والعدالة وتحقيق ما حالت عهود الاستبداد دون تحقيقها. أن من صميم عمل السلطات المحلية القيام بالخدمات العامة في حدود اختصاصاتها التي بينها الدستور والتشريعات الملحقة به الأمر الذي يستلزم أن تكون لهذه السلطات شخصيتها المعنوية بمعنى أن تكون ذات استقلال إداري ومالي في إطار هيئات يكون أعضاؤها منتخبين من قبل السكان لا معيَّنين. أو يمكن في الأخير أجمال الخطوط الرئيسية للنظام اللامركزي باختصار في الآتي:- الحكومة المركزية ومجلس النواب في العاصمة. - الحكومة المحلية المتمثلة في هيئات إقليمية ينتخبها السكان.. ومما سبق يتضح أن اللامركزية في الحكم تقوم على أساس وجود مصالح محلية تتولاها هيئات محلية تحت إشراف الدولة.. بما يعني أن المصالح العامة إما أن تكون قومية تهم الأمة في مجموعها كالدفاع أو محلية تهم إقليماً بذاته.. ومن هنا فاللامركزية تترك الشئون القومية في يد الحكومة المركزية ومجلس النواب.. وتسلم الشئون المحلية للسلطات المحلية.. وبما أنه لا يوجد معيار ثابت يؤخذ به لتوزيع الإختصاصات بين السلطات المحلية والحكومة المركزية ولذلك فإن توزيع الاختصاصات يصبح أمر تنظيمه متروكاً للتشريعات المنظمة لها فهناك.. مرافق ومؤسسات عامة تخص الأمة في مجموعها ولا تقبل التقسيم بطبيعتها كمؤسسات الدفاع والشئون الخارجية حيث تكون من اختصاصات الحكومة المركزية. كما توجد مرافق تهم إقليماً بعينه وهذه تترك للحكومة المحلية كمصائد الأسماك وزراعة الأشجار في الجبال .. بالإضافة إلى مرافق تستلزم مباشرة وإشرافاً لا يتيسر للحكومة المركزية القيام بها وهذه تترك أمر القيام بها طبقاً للتشريعات المقررة والمنظمة للإدارة والحكم. مع هذه الصورة القوية والتصورات المشرقة لمطلب الحكم المحلي ومحاولة مقارنتها بقانون السلطة المحلية الحالي يتضح أن القانون ليس حكماً محلياً بل مبادئ لفظية لنصوص مواد في سلطة غامضة تعكس في الحقيقة إشكالية المركزية في الحكم بصفتها المجسدة للفردية بعيداً عن دلالتها اللامركزية في تلبية احتياجات السلطة المحلية.. حيث عمد خدم النظام السابق ودهاقنته القانونيون إلى صياغة القانون خارج اللامركزية ، وإطارها السياسي في ممارسة السلطة المحلية. ولذلك لم يستغرب أحد صدور هذا القانون بهيئته ، وتسميته خالياً من أكثر مزايا نظام الحكم اللامركزي أهمية ، والمفترضة بطبيعتها في كل أنظمة الحكم المحلي في العالم .. فقد تم استغناء القانون عن دور الأمة ، ورغبتها .. وبالتالي الاستغناء عن أسس اللامركزية ، حيث تم اختزال حقوق الشعب ، ومطالبه لصالح حكم الفرد ، وفي إطار مركزي ، واضح الدلالة ، والمعاني .. مما يمكن معه القول : بأن النظام السابق لم يقدم بهذا القانون شيئاً جديداً ، لمواجهة تحدي الجديد.. مما يطبع تخلف قانون السلطة المحلية عن روح العصر وثقافته وتمثل عودة جديدة للقبضة الحديدية وهذا الموضوع من أهم العناوين البارزة في قضايا الحوار الوطني القادم .