لقد كشفت أجواء الوفاق الوطني الذي نعيشه اليوم أن أم القضايا المطروحة أمام القوى الوطنية وكل حملة الفكر والثقافة هي كيفية إعادة بناء القيم المنهارة بعد أن تعرضت لخضّات عنيفة وهجمات شرسة من الأمراض الثقافية والأوبئة النخبوية التي منها الإسراف في حب الذات، وتغليب المصلحة الفردية على المصالح الوطنية العليا. كثير من القلوب اليمنية كانت ولاتزال تعاني جفافاً في الإحساس الجمعي والمشاعر الوطنية، وأقرب دليل أن الدراما اليمنية المتواضعة وغيرها من الخطابات الجماهيرية لم تعنَ بتعميق هذا الجانب في ذهن المتلقي، ولتنظروا إلى السينما المصرية على سبيل المثال فهي حافلة بالعبارات ذات المعنى الكبير، والإحساس المقدس، فهم كثيراً ما يرددون مع بعضهم “دي مصر!!” أو “من أجل مصر.. ست الكل .. وأم الدنيا” ومثل هذه العبارات تحجمهم عن الفعل الذي يضر بالمصلحة الوطنية، مهما كانت أهميته للفرد. أما نحن فلا نسمع ما يجعلنا نحس بعظمة الوطن، كأن يقال “هذي اليمن!!” أو “اليمن مش أي بلد”.. نعم قد يردد البعض قوله"من أجل الوطن"، ولكن هذا التعبير ليس بمستوى الإيحاءات التي يحملها التعبيران الأولان.. وهو بدلالته العامة والمستهلكة والشائعة بين جميع الشعوب لا يعكس خصوصية الأرض والشعور الحقيقي بمكانة الوطن، وما يقتضيه هذا الشعور من سلوكيات وأفعال لا تتعارض مع مصلحة هذا الوطن، ومع الإيمان بضرورة رفعته وتقدمه وتطوره. حضور ”دي مصر!!” مقابل غياب ”هذي اليمن!!” قد يعكس أن ثمة عقدة نقص يزنية تتحكم بسلوك النخب اليمنية، وكأن عدم قدرة اليمنيين على إنهاض أنفسهم وحاجتهم إلى مساعدة غيرهم وعدم استقلاليتهم الكاملة في صنع القرار السياسي هو الذي ضاعف فرض الشعور بهذه العقدة. وعندما طغت هذه العقدة على شعور اليمنيين جاء الإحساس بالعدمية والتقزم، واستقر في إحساس الناس الشعور باستحالة النهوض والتقدم، وكأننا بلد خلق ليظل هكذا، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد ذهبت عقلية الإنسان اليمني تستدعي هذه العقدة عند ثوران الأنانية وحب الإقصاء والإجهاز على مقومات النهوض.. فالمفسد يفسد في منصبه وهو يسوغ فعله بأن الخراب يعم كل الأرجاء ولا فائدة من التعامل بنزاهة أو التصميم على صناعة النجاح، ويسوغ لما يفعل بقوله: "إن الآخرين يعيثون وينهبون، ويسرحون ويمرحون، فلا أريد أن أكون شاذاً عنهم" .. ثم إن شياطين الإنس والجن يخوفونه بعواقب سيئة إذا ما شذّ عن غيره من المسئولين لأن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار. وهكذا وصلنا إلى أن أصبح المنصب مغنماً وليس مغرماً، وتشريفاً لا تكليفاً، ولهذا تجد كثيراً من المسئولين يكرهون مغادرة مناصبهم وإعطاء الفرصة لغيرهم، لأنه يقع في ثقافتهم أن في عزلهم حرماناً من مال وافر، وفرص متكاثفة للإثراء، وأصبحت المناصب والمسئوليات تقاس ويفاضل بينها، ليس على قدر الجهد وجسامة المهام، ولكن على قدر ما فيها من عوائد مالية يمكن جنيها بطرق ملتوية. اليوم يصعب أن تجد مسئولاً يعزل نفسه بتقديم استقالته، رغبة منه في ترك المجال للآخرين.. وخصوصًا بعد كل ما حصل من أحداث: هل نجد المسئول الذي يقول صادقاً: لقد اكتفيت بهذه التجربة فليأتِ غيري..؟! إننا نجل أولئك القلائل الذين عُرفوا بأنهم تقلدوا مناصب ومسئوليات في فترات معينة - سواء في هذه الظروف أو قبلها بسنين - ثم تخلوا عنها بمحض إرادتهم وهم في قمة عطائهم وإصرارهم على النجاح.. تحيةً لهم ولنفوسهم الراقية المترفعة عن نقائص العمل والخدمة الوطنية. حاشية: من قصيدة أهديها للأستاذ الدكتور عباس السوسوة في احتفاء تعز بمسيرته العلمية المشرقة: هموم بقلبي لم تكشفِ وحزن من الزمن المكسفِ ترى الصدق فيه على غربةِ وأهل الصواب بلا منصفِ نعادي الحقيقة وضاحةً ونحفل بالباطل المقرفِ عليك سلام أخ الصدق ما تنكّر قوم لفعل وفي وحسبك نكران ذات فقد شربت العلوم وما تكتفي! وحسبك رفضاً لإطرائنا فمن حقنا اليوم أن نحتفي