فإذا كان الإحسان ضرورياً لتنظيم العلاقات بين الوالدين والأولاد فإنه ضروري أيضاً لتنظيم بعض العلاقات الاجتماعية الأخرى. ويستنتج ذلك من قول الله تعالى: (الله أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً). ينبغي هنا أن نلاحظ العلاقة في الآية بين لفظ صالحين والأوابين؛ فلفظ صالحين يعني ممارسة الصلاح بكل ما يعنيه من معنى، أي القيام بالأعمال الصالحة التي حظ عليها القرآن الكريم في أكثر من سورة وآية. أما لفظ الأوابين فإنه يشير إلى المخطئين. ولا شك أن الخطأ يعتبر جزءاً من الأعمال السيئة، لكن لفظ الأوابين يشير إلى الاعتراف بالخطأ و الرجوع عنه. بدون استدعاء مفهوم الحرية فقد يكون ذلك تناقضاً؛ فالحرية لا تعني أن تكون تصرفات الأحرار غير خاطئة، وإنما تعني أن تكون صادقة، أي معبرة عن قناعة معينة. وفي هذه الحالة فقد يقصد الحر القيام بتصرفات صالحة، لكن يكتشف فيما بعد أن هذه التصرفات غير صالحة؛ لأنها إما أنها كانت تحتوي على عناصر صالحة وأخرى غير صالحة، واتضح فيما بعد أن المكونات غير الصالحة كانت أكبر بكثير من المكونات الصالحة، وإما أنه قد أسيء تقييم الآثار المترتبة على هذه الأعمال فتحولت من أعمال صالحة إلى أعمال غير صالحة. وهنا نلاحظ أن قصد الصلاح كان هو الدافع للقيام بهذه الأعمال أو التصرفات، ولكن النتيجة كانت مختلفة. ومادام أن الإنسان الصالح كان هدفه هو الصلاح فلا تغير النتيجة من قصده الأساسي، ولكن بشرط أن يتراجع عما قام به ويعترف بخطئه حتى يكون من الأوابين. وبما أنه لا عصمة لأي إنسان فإن احتمال حدوث الوقوع في الخطأ يعد أمراً حتمياً. وكل ما يحاول الإنسان الصالح عمله هو في المقام الأول تجنب الوقوع في أخطاء أبداً قدر الإمكان والاعتراف بها في حال وقوعها. ولا شك أن العبادة تهدف إلى تمكين الإنسان الصالح من ذلك وكذلك التعلم والذي هو التواصي في الحق والتواصي بالصبر. فإن لم يترتب على العبادة والعلم ذلك فلا قيمة لهما. وفي هذه الحالة فإن حظ الله عباده الصالحين على القيام بالعبادة وطلب الاستعانة والهداية لا معنى له إذا لم يترتب على ذلك تحسين التصرفات الإنسانية في المستقبل من خلال الازدياد من الأعمال الصالحة وتقليل الأعمال السيئة، وعلى هذا الأساس كان دعاء الملائكة للمسبحين والمستغفرين: (وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته). لكن في المقابل فإنه ينبغي أن نلاحظ أن الإنسان لا يستطيع أن يعيد الزمن إلى الوراء، أي إلى اللحظة التي سبقت ارتكابه للخطأ؛ بهدف إزالة ما ترتب عليه من آثار ضارة عليه وعلى الآخرين. الله وحده يقدر على إزالة هذه الآثار. ولكن الله رتب ذلك على توبة مقترفة الخطأ. والتوبة هي الإقلاع عن هذه الأخطاء فوراً والندم على الوقوع بها والعزم على عدم العودة. (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً). (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون). (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين). ولا شك أن توبة الله على عباده هو إحسان منه. وبالمثل فإن الأحرار يمارسون الإحسان مع غيرهم من البشر وهو العفو والتسامح. فبدون ذلك لا يمكن أن تستقر الحياة وتتطور. فهناك أخطاء لا يمكن أن تعالج آثارها العدالة مهما كانت صارمة وشاملة وإنما فقط تعالج من خلال الإحسان، أي العفو. (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم). (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم). (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم). (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا اتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير). الطاغوت لا يعترف بالعدل ولا بالإحسان، وبالتالي فهو مدمر للحياة. وإذا ما ارتكب بعض الإنسان أي أخطاء فإنه لا يعالج ذلك من خلال العدل أو من خلال الإحسان، وإذا لم يرتكب بعض الناس أي أخطاء فإنهم يعاقبون وبدون رحمة. فيحول الطاغوت الإنسان إلى آلة وبالتالي يحرمه من إنسانيته. فالطاغوت هو التصرف وفقاً للضغوط الخارجية وليس الضغوط الداخلية. (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم). (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير). (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق). (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذاباً أليماً). (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون). المجتمع الحر يقوم على العدل والإحسان، والمجتمع الطاغوتي يقوم على الفحشاء والمنكر.