بعد أن حدد القرآن القواعد الاساسية لقيام العلاقات الاجتماعية على اسس حرة و كذلك بعد ان بين الانحرافات التي قد تقضي على الحرية فتحول العلاقات الاجتماعية الى علاقات ضارة و غير قابلة للاستمرار ها هو يحدد العلاقات الاقتصادية التي تتفق مع الحرية و تمنع من ظهور الطاغوت. ولا شك ان هذا الترتيب في القرآن يتفق مع الترتيب الطبيعي. فلا اقتصاد بدون انسان و لا انسان بدون حياة اجتماعية. وعلى هذا الاساس فان الاجتماع و الاقتصاد يسبق السياسية والعلاقات الاخرى. «وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ». الاقتصاد كما هو معروف الآن علم يناقش الانتاج والتوزيع و الاستهلاك لكل من السلع و الخدمات.« المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا. زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب. قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين امنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. انا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا.» وحتى يتم التمتع هذه الطبيات من الرزق فانه لا بد من انتاجها اي اعدادها للاستخدام الانساني. و ما من شك بان الحياة الانسانية لا يمكن ان تستمر و ان تستقر الا اذا تم تلبية الحاجات الانسانية المتمثلة بالغذاء و الملبس و السكن. و من الواضح ان تلبية هذه الحاجات الضرورية للإنسان اي انسان يتم من خلال العمل الانساني و الموارد الطبيعية مثل الارض ( التربة و المياه و الهواء) و الادوات التي ابتكرها الانسان ( الآلات و المعدات و المباني و غيرها). العمل هنا يمثل الجهد الانساني و الذي يتكون من جهد يدوي او بدني و من جهد عقلي اي معرفي. و لا بد لهذا الجهد حتى يكون مفيدا اي منتجا للسلع و الخدمات ان يختلط مع الموارد الطبيعية. و هكذا ندرك ان عملية الانتاج تتكون من مكونين. المكون الاول هو ما خلقه الله من موارد على وجه الارض و باطنها صالحة للاستخدام الانساني. و هذه الموارد هي معطاة للإنسان و بالتالي فانها تمثل قيدا عليه يجب ان يتصرف في المجال الاقتصادي وفقا لذلك. اما المكون الثاني فهو الجهد البشري و هذا و إن كان للإنسان قدرة على التاثير عليه الا ان هذه القدرة محدودة ايضا. و نتيجة لهذين القيدين يمكن تعريف المشكلة الاقتصادية و هي ان هناك بشكل عام احتياجات الانسانية اكثر مما تسمح به عملية الانتاج مهما كانت متطورة. فالله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر له. فإن كان على الانسان اي انسان ان يسعى في الارض و يطلب الرزق فإن نتيجة ذلك ليست متساوية لكل الناس. صحيح ان من لا يسعى لا يحصل على شيء و ولكن الصحيح ايضا ان من يسعوا قد يحصلون على نتائج مختلفة. و يمكن توضيح ذلك على النحو التالي. لقد ضمن الله الرزق لكل المخلوقات و على وجه الخصوص الانسان. «وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم الى ربهم يحشرون. وما من دابة في الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم». فالدابة هنا هي المخلوقات التي تسعى لرزقها فان الله يرزقها. «الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون. يا ايها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ان كنتم اياه تعبدون. قل أرأيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله اذن لكم ام على الله تفترون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون. ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم. قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن اكثر الناس لا يعلمون». يختلف الرزق بحسب الحاجة و الجهد الذي يبذل. و ويتدخل الله هنا في تحديد الرزق وفقا لذلك من خلال عدد من الطرق و الوسائل. فمن المعروف ان خصوبة التربة تختلف من مكان الى مكان و كذلك معدل نزول الامطار. ايضا من الواضح ان معدل توزيع المعادن على وجه الارض ليس متساويا. هذا من ناحية و من ناحية اخرى فان ذكاء البشر و قوته البدنية ليست متساوية فهناك تفاوت فيها مما يؤثر على مقدار ما يحصل عليه الفرد من رزق. و يتفاوت الرزق ايضا لتفاوت الجهد المبذول سواء الجهد البدني او الجهد العقلي فالا نسان عادة لا يجب العمل و خصوصا بعد بذل قدر محدد منه. الدواب الاخرى غير الانسان ترضى بما قسم لها من رزق بعد ان تبذل جهدها اما الانسان لا يرضى بذلك. و مهما حصل الانسان على رزق كبير فانه يطمح الى اكبر منه. «ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء انه بعباده خبير بصير. وتجعلون رزقكم انكم تكذبون. فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ». و من اجل التغلب على المشاكل الاقتصادية التي يواجهها البشر فانه لا بد من القبول بالتفاوت بالرزق و الاقتصاد في الانفاق. و لن يتحقق ذلك الا من خلال الحرية و غياب الطاغوت.