اشرنا في مقالاتنا السابقة ان الاقرار بمبدأ الملكية قد مكن من اختراع الزراعة و التي ترتب عليها قيام التبادل بين الناس على المستوى على المحلي المحدود. و قد شجع ذلك على اختراع النقود و التي بدوها وسعت حجم و مساحة التبادل من خلال ما اطلق عليه التجارة. و من المهم ان نؤكد هنا ان اتساع نطاق التبادل و زيادة عدد المتبادلين قد مهد لقيام الاسواق. في البداية كانت الاسواق تمثل المكان الذي يلتقي به الراغبين في بيع ما لديهم من سلع و كذلك الراغبين في شراء ما يرغبون به من سلع او الاثنين معا. في البداية كان الالتقاء يتم سنويا ثم تحول الى شهريا ثم الى اسبوعيا ثم الى يوميا. و عندما كان ذلك فانه قد خلق تحديات و فرص. فقد خلق تحديات اهمها تحديد القيمة و ووقت دفعها اي الدين و الوفاء به. اما فيما يخص في الفرص فان اهمها بيع المعلومات المتوفرة على السوق و كذلك كتابة العقود و ضمان الالتزام بما تتضمنه. من المتعارف عليه أن السحرة هم الذين فطنوا الى هذه الفرص و احتكروها لانهم هم الذي يمتلكون قدرات خارقة من خلال ما يمارسونه من سحر ابهرت ابصار العامة، و نجحوا في تكوين ثروات و نفوذ كبيرين، و بطبعة الحال فان السحرة لم يكونوا يجيدون كتابة العقود و لا مهارات التفاوض و الاقناع. و من المسلم به ان رجال الدين كانوا يتفوقون على السحرة في ذلك و بالتالي فانهم حلوا محلهم في ادارة الاسواق. و لقد مثل ذلك خطوة كبيرة ترتب عليها حدوث تغير كبير في طبيعة السوق من حيث وظيفته و طريقة ادارته و المؤسسات التي يجب ان تسيره. فعلى سبيل المثال فقد تم الاستفادة من مهارات الكتابة و الصياغة التي كان يتمتع بها المرتبطين بالمؤسسات الدينية على اعتبار ان ذلك كان من احد اهم وسائل المؤسسات الدنية في نشر معتقداتهم بشكل واضح و دقيق. هذا من ناحية و من ناحية اخرى فان الطقوس و الشعائر كانت من اهم الممارسات الدنية. و ما من شك فان هذه الانشطة الدينية كان لها ارتباط قوي بأنشطة السوق الاقتصادية، فهذه الطقوس و الشعائر كانت تتطلب عدد كبير للمشاركة فيها من اجل تقليل تكاليفها و تعظيم ايراداتها. و بالاضافة الى ذلك فان اقامتها كان يتطلب توفر سلع معينة كان السوق يعمل على توفيرها. و كما ان السوق يتميز بتعدد البائعين و المشترين من خلال تعدد السلع فان ذلك قد برر تعدد الالهة و الاديان. و لا شك ان ذلك قد شجع على الشرك على الاقل. فالإيمان باله واحد او دين واحد لم يعد مقبولا من الناحية الاقتصادية و ان كان هو المقبول و المنطقي من الناحية الدينة. اذ انه يمكن القول بأنه لولا ظاهرة الاسواق لما نشأت ظاهرة الشرك. فظاهرة الاسواق سبقت ظاهرة الشرك. و مؤسسات الشرك انطلقت من الاسواق. و نتيجة لذلك فقد اندمجت مؤسسات السوق و المؤسسات الدنية في مؤسسة واحدة. و قد حدث ذلك عندما اعتبر مكان السوق مقدسا و يوم السوق مقدسا و تعاملات الاسواق مقدسة. و من اجل التعامل مع كل هذه الامور و القضايا فقد طورت المؤسسات الجديدة اي المؤسسات الاقتصادية و الدينية ثقافة معينة، و قد تطلب ذلك التخصص في هذه القضايا. و من ثم فقد تفرغت طبقة كبيرة من المهتمين بالقضايا الاقتصادية و القضايا الدينة لأداء هذه المهام.و ما من شك من ان هذه الطبقة كانت تميز نفسها عن الفئات الاجتماعية الاخرى. و من اجل ذلك فقد اختارت اسلوبا مميزا للبسها و شكلها و مسكنها و مأكلها و غير ذلك من المميزات التي قصد منها تميزهم عن الاخرين بهدف احتكار هذه الوظائف المربحة جدا. و قد تمكنت هذه الطبقة من احتكار العلاقات الاقتصادية و العلاقات الدينة لفترة طويلة من الزمن،لكن تعدد الاديان و تنافسها فيما بينها مما اثر على مصداقيتها فلم تعد شعاراتهم و طقوسهم مقبولة من قبل الغالبية العظمى من الفئات. و بما ان مؤسسات الاسواق قد اصبحت عميقة في الحياة الاقتصادية فان الغائها لم يكن سهلا،و من ثم فقد تم فصل المؤسسات الدنية عن مؤسسات السوق. فقد تركت المؤسسات الدينية لرجال الدين، اما مؤسسات السوق فقد تولتها طبقة جديدة اطلق عليها طبقة السياسيين. فالسياسيون هم الذين امتهنوا الحفاظ على الامن و حل الخلافات و ضمان الوفاء بالالتزامات، انهم يقومون بذلك من خلال التفويض الذي اعطاه لهم المتعاملين مع الاسواق،و قد ترتب على ذلك من ناحية ان المتعاملين مع الاسواق هم الذين يحدد قواعد التعامل كما يرغبون من خلال التفاوض فيما بينهم. اما مهمة السياسيين فلم تعد في تطبيق هذه القواعد فقط. من الملاحظ ان العديد من الاعراف و القواعد التي تطورت في ظل سيطرة السحرة و سيطرة رجال الدين لم يتم استبدالها باخري جديد. فقط تم اصلاح بعضها و في الغالب تم الاهتمام بالقضايا الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل. و نظرا لان الاسواق تدر ارباحا كبيرة على المتعاملين معها و خصوصا أولئك الذين يتولون ادارتها فقد اكتشفت طبقة السياسيين ان لديها موارد كبيرة قد تمكنها من ان تمد نفوذها خارج نطاق الاسواق. و لقد ترتب على ذلك ان نافست هذه الطبقة طبقة رجال الدين. و بما ان المؤسسة الدينة كانت تقوم على نوع من الهرمية بحيث يكون الإله او ممثله على راس هذه المؤسسات و يساعدة عدد من المساعدين يوزعون على مستويات مختلفة فان السياسيين قد اضطروا الى تكوين مؤسسات سياسية شبيه بالمؤسسات الدينية. لقد كان الملك هو راس المؤسسات السياسية و يساعده عدد من الوزراء و السياسيين و العسكرين. و بطبيعة الحال فان القواعد التي كانت تحكم المؤسسات السياسية لم تكن شبيهة باي حال من الاحوال بالقواعد التي كانت تحكم مؤسسات الاسواق و لا بتلك التي كانت تستخدم في المؤسسات الدينية،انها في حقيقة الامر قامت على اساس الاكراه. فالسياسة (الملك) بذلك قد مثلت خروجا عن اهم احد اساس التجارة اي التبادل بعوض متراض عليه الى اساس احقية المؤسسة السياسية تحديد عوضها ( الضرائب) بشكل مستقل عما يمكن ان تقدمه المؤسسات السياسية من خدمات للمتعاملين في الاسواق. و من أجل تبرير ذلك فقد اصبح الملك ممثلا عن المتعاملين في الاسواق و ان لم يكن له اي حق في اختياره او الاعتراض على ما يقوم به. فمن حقه كملك ان يفرض عليهم اي شيء و ان لم يقبلوا به و ان تضرروا منه. فالطاعة الكاملة هي المبدا السياسي الذي لا يمكن التخلي عنه في ظرف من الظروف. و من خلال تكريس هذا المبدا فان السياسيين قد على ضرورة الالتزام بما يصدر من الملك بكل صرامة. و بذلك فقد تمكن السياسيون من فرض كل ما يرغبون فيه حتى لو كان ذلك خداعا فاضحا. و من خلال هذا الامر قد استطاع الملوك ان ينافسوا المؤسسات الدينية من خلال الادعاء انهم هم الذين يمثلون الاله و ليس رجال الدين. و بذلك فقد جمع رجال السياسية بين السلطتين الاقتصادية و الدينية. و كان السوق هو مجال تطبيق ذلك. و هكذا عاد التاثير الدين على الاسواق بعد ان كان قد تراجع عنها. لقد جاء القران لدحض ادعاءات السياسيين كما دحض من قبل ادعاءات السحرة و رجال الدين من قبل.