ببساطة لاشيء يجلب الاعتزاز في تاريخنا الحديث كله – اليمن الشمالي سابقاً بالذات - غير تصرفات قليلة فارقة في السلطة لأسماء تم الفتك والتنكيل بأحلامها.. أحلامنا الجمعية. ولقد كان من الممكن أن تكون محطاتنا التاريخية خلال ال50 عاماً الأخيرة كلها مفعمة بمواقف التثبيط والإخفاق واليأس المتعدد الانحطاطات، لولا ممارسات قيادية فاعلة بوصفها باهرة بالجدوى وبالتحفيز وبالآمال، حتى إنها تفوقت بنواياها الصادقة تماماً، رغم الخذلان النوعي. بينما كانت غريبة في العاصفة الهوجاء وهي تواجه ببسالة مشهودة كل صنوف وحشود المكرة المتربصين المناوئين كما نعرف. أجزم بالطبع أن إبراهيم الحمدي بحركته التصحيحية على رأس قائمة مثل هذه النمذجات المبهرة التي كانت تندر بشدة في الشمال، مقارنة بالجنوب الذي كان يزخر بها نوعاً ما، رغم أنها خُذلت هناك أيضاً كما يقول التاريخ. فالمؤامرات والمكائد والتحالفات اللاوطنية هي التي ظلت تتطور بشكل ملفت في جميع منظومات الحكم المتعاقبة هنا قي غالب المراحل. ولقد استمر طباخو الأزمات الحادة في الشمال والجنوب معاً لا ينتجون سوى وجبات المشاريع الصغيرة، لنكتشف ما يعد بديهياً بأن العقل السياسي في اليمن عبارة عن عقل عشائري أو طائفي ليس إلا. من هنا يمكن القول: إن حياة اليمنيين طيلة هذه الفترة كانت ستكون مجرد مسرح نموذجي للعبث لا أقل ولا أكثر، خصوصاً إذا كانت بغير ذلك القليل الذي تيسر من رهانات الحلم المعاند الذي حاول أن يتفعل في واقع معقد لا يقبل بالحلم أصلاً، كما يستخف بالمراهنة عليه. وتعد فترة حكم الحمدي مثالاً على ما عاناه الرجل الحالم جراء غياب العقيدة الوطنية لصالح حضور العقيدة الشللية لدى مراكز القوى، بحيث ظلت مبرمجة على إنهاك كل شيء لا يدين لتخلفها بالولاء؛ إذ لا تعرف غير إرضاخ كل ما يعيق مصالحها بشرعية الغلبة والاحتيالات والنفوذ، حتى تحولت إلى ظاهرة طاردة لكل أفق وطني مهموم بطموحات الشعب في تحقيق العدالة الاجتماعية والإنتاج الاقتصادي والحداثة الثقافية ومحاربة الفساد، ما أعاق تربية وتكوين الجيش على أسس وطنية لا على تعدد الولاءات، وبناء الدولة كدولة لا كعصابات تحتكرها وتمارس الحكم من خلالها في أسوأ نمط همجي لاستلاب الحكم واستغلاله. وهكذا.. زادت وتيرة التراكمات المعيقة بسبب استمرار النافذين الطفيليين، فلم تتحقق حتى الآن الشفافية والكفاءة في إدارة الدولة التي لم تبن بعد كما ينبغي، بل لازلنا بلا تخطيط استراتيجي مسؤول للمستقبل، محكومين بالتخطيط العشوائي الذي يستفيد من انحرافاته هؤلاء. وكذلك لم تتحقق التنمية المفترضة ولا تمدين الوعي المجتمعي باتجاه الارتقاء به والإعداد الجيد للأجيال القادمة، فيما الأوضاع اليمنية كانت تنهار فقط وعلى أكثر من صعيد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً... إلخ. على أنه تاريخنا الذي في معظمه قاحل إلا من اخضرارات بسيطة عميقة الجذوة مازالت تستحق الاحتفاء والتخليد، إضافة إلى أن روح الثورة الجديدة لابد تتوافق مع إمكانية اتخاذنا لها كاخضرارات لمنطلقات موضوعية نحو مستقبل حيوي ممكن بعد استيعاب التحولات لاشك. ولقد ظلت سيرة وآثار تلك الاخضرارات العابرة مقيمة جيلاً بعد آخر؛ إذ كانت تصر على معاكسة الحظ التقليدي المرسخ وعلى صيانة المشروع الوطني الكبير بمتطلبات التوق الجديد المفترض لليمنيين خلال عديد منعطفات وطنية مهمة غير متصالحة في الوقت نفسه مع وقائع استنزافاتها أو إعاقاتها كي لا تعود للوراء، كما كان يراد للحمدي وحركته بشكل حثيث ناقم، وهو الذي كان يندفع وقتها ببراءة مشهودة، بما يجب أن يكون فقط. ولذلك ينبغي على الضمير الجمعي إنصاف الحمدي ومشروعه بما يليق.