من حسن الطالع أن تكون الأشهر المتتالية(سبتمبر وأكتوبر و نوفمبر)أعياداً للاحتفاء بثورة التغيير التي عمت أرجاء اليمن منتصف ستينيات القرن المنصرم لتكون بذلك علامة فاصلة في تاريخ اليمن المعاصر بين نظامي الإمامة والاستعمار من ناحية والنظام الجمهوري التحرري من ناحية أخرى وبحيث أمكن لليمنيين من تحديد خياراتهم في الانعتاق من ربقة النظام الإمامي المستبد والاستعمار الإنجلو- سلاطيني ..وكلاهما مثلا عاهة مستديمة لليمنيين ألقت بأعبائها على حياتهم لعقود طويلة. ومنذ تفجر شرارة الثورتين الأولى في سبتمبر 1962م والثانية في أكتوبر عام 1963م ظلتا - في واقع الأمر- محاصرتين بعوامل الداخل والخارج ولم يكتب لها النجاح إلا بعد ذلك بسنوات عندما نجح التلائم الوطني والإلتفاف الشعبي لدحر الحصار عن صنعاء عام 1967م .. وهو النجاح الذي تزامن مع قوة العنفوان الثوري الجماهيري في إجلاء المستعمر البريطاني عن عدن في نفس ذالك العام. وإذا كان ذلك أصبح تاريخاً محفوراً في ذاكرة اليمنيين يجسد عظمة نضالاتهم وحجم التضحيات التي اجترحونها ، فإنه قد قادهم بعد سنوات مريرة من الاقتتال - سواء داخل كل شطر على حدة أو بين الشطرين ككل- إلى طريق تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990م بكل ما يحمله هذا المشروع الوحدوي من أحلام ظلت بين ثنايا الأحرار والثوار والمناضلين وكل أبناء الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه لفترات طويلة . أما ونحن نعيش الاحتفالات بأعياد الثورة اليمنية «سبتمبر و أكتوبر ونوفمبر» فإن الأحرى أن نستذكر محطات المعاناة وعظم التحديات التي مثلت عقبة كأداء أمام تطلعات الشعب في الاستقرار والتقدم والرخاء.. ولعل من أبرز تلك التحديات ، السجالات العقيمة بين رفاق النضال والتي قادت في فترات مختلفة إلى الصدام العسكري والاحتراب الداخلي كما حدث في معسكر الجمهوريين بعد دحر الحصار عن صنعاء ، وكذلك الحال بين رفاق الكفاح المسلح إثر جلاء المستعمر البريطاني وقد تمثل ذلك جلياً في التصادم الدموي بين جبهتي «التحرير» و«القومية»وهو الصراع الذي تفجر بصورة مختلفة في أحداث يناير المشئومة عام 1986م بين رفاق الحزب ..فضلاً عن النزاعات المسلحة بين الشطرين قبل هذا التاريخ إلى ما هنالك من تطورات وأحداث مأسوية عاشها الشطرين إلى أن أفضت إلى الإنجاز العظيم المتمثل في قيام الوحدة اليمنية التي تعرضت لانتكاسة حرب صيف 1994م والتي نأمل أن تكون آخر الحروب. ومن حسن الطالع كذلك أن ندلف عقداً جديداً من عمر الثورة اليمنية ونحن نعيش مخاض تجربة سياسية جديدة وطموحة تتمثل في الانتقال السلمي السلس للسلطة والتي أفضت إلى جملة من المعالجات الموضوعية التي يمكن - إذا ما كتب لها النجاح- بأن تكون عامل أمن واستقرار داخلي يُمكن اليمن واليمنيين من تجاوز أسر التحديات الراهنة والانتقال إلى فضاء المستقبل المشرق تأكيداً لمقولة “الحكمة يمانية”. وفي تصوري المتواضع فإن أبرز تلك المعالجات تكمن في مصفوفة الإصلاحات التي تضمنتها المبادرة الخليجية والمتمثلة في إعادة ترتيب البيت اليمني من الداخل ، وفي طليعة ذلك الحوار الوطني الشامل الذي يعد بمثابة المدخل الرئيس لإنجاز مهام إقامة الدولة اليمنية الحديثة والتي يعلق عليها المراقبون من أشقاء وأصدقاء بأن تكون ملاذا آمناً لليمنيين للخروج من أسر تلك التداعيات امتثالاً للحكمة التي دوماً ما وصفوا بها بالاستفادة منها في التقاط اللحظة التاريخية الفاصلة من خلال المشاركة الفاعلة في آليات هذا الحوار وطرح الحلول الكفيلة بتجاوز الراهن من الأزمة و الاتفاق على صيغ جديدة لماهية ودور النظام السياسي الجديد الذي يحافظ على اللحمة الوطنية وينأى بهذا البلد عن مزالق الدخول في دوامة الاقتتال والعنف.. والأمر- بطبيعة الحال- لن يتحقق إلا بتوافر الإرادة اليمنية القادرة على تغليب لغة الحوار والاحتكام إلى مصالح الوطن العليا والعمل بإخلاص على إبقاء عامل التوتر الخارجي بعيداً عن التدخل في شؤون اليمن ..فضلاً عن أن التقاط تلك اللحظة التاريخية مرهون أيضاً بمدى الاستفادة من حالة الدعم الخليجي والأممي لرعاية هذا الانتقال إلى المستقبل بالسعي الجاد لإيجاد حلول ناجعة لهذه الأزمة وذلك من منطلقات أخويه وأممية صادقة يشكرون عليها في كل الظروف والأحوال . لقد دفع اليمنيون ثمن باهظاً جراء استمراء استنساخ الأزمات واستحضار الحروب والدماء طيلة العقود الماضية سواء كان ذلك بإرادتهم الصرفة أو بفعل التدخل الخارجي ..وقد حان لهم بعد كل هذه العقود أن يستحضروا مآسي التجريب في الماضي ليس لإعادة إنتاجها ولكن لكي يجعلون منها عبراً بالغة الدلالة يعملون على تفاديها وعدم الوقوع في أسرها مجدداً ، مهما كانت مغريات ذلك كبيرة تلعب بعقول بعض ضعاف النفوس ممن استهوتهم بأن تكون بلدهم حقلاً لتجارب بعض الحكام الطائشين وما أكثرهم في المنطقة هذه الأيام !! .