أكدت حرب سبتمبر 1972م أن العمق العسكري - الأمني لأجهزة القوة الجنوبية داخل أجهزة قوة صنعاء شكل عاملاً حاسماً للانتصارات العسكرية في الجبهات، خاصة جبهة الراهدة – كرش، وانتكاسة ساحقة للعسقبليين، وعلى الرغم من هذه الانتصارات إلا أن سلطات صنعاء آنذاك قامت بالمراجعة لفاجعتها، واتخذت الإجراءات القمعية والاحترازية والاستراتيجية الآتية: أولاً: الاستمرار في غربلة القوات المسلحة والمخابرات وتصفية القيادات المتقدمة المنتمية لمنطقة تعز الصغرى (تعز – إب) والتي كانت الشكوك حولها قوية في انتمائها للحزب الديمقراطي وحزب الطليعة الشعبية، إضافة إلى الشك من ولاءات لمصلحة أجهزة الأمن في عدن، ولم يبق داخل أجهزة القوة الذين نشأت لهم مصالح أنانية وتحولوا تدريجياً إلى بنادق مستأجرة. ثانياً: عدم الثقة بالنازحين من أبناء الجنوب الذين هربوا جراء الصراعات الدامية في عدن، واعتبروا مقيمين مؤقتاً، مستخدمة العديد منهم في العمل الاستخباراتي الموجه ضد دولة الجنوب وحصار الأكثرية في معسكرات في ريف تعز الصغرى؛ بهدف إطلاق عمليات عسكرية نوعية في مدن الجنوب، وكان من أبرز تلك العمليات عملية (دهمس) الهادفة إلى تفجير منشآت النفط في حجيف وعملية (عبدالعزيز الدبعي) الاستخباراتية التي تم إبطال مفعولها في 1981م و1982م. ثالثاً: تحويل مدينة تعز إلى منصة لإطلاق العدائيات العسكرية والاستخباراتية، ليس فقط بأدوات محلية بل بأدوات إقليمية ودولية، حيث وجدت الاستخبارات الإقليمية الفرنسية والأمريكية والإسرائيلية مركزاً ملائماً لعملياتها التجسسية ضد الأسطول السوفياتي في باب المندب وخليج عدن وضد أجهزة سلطة الجنوب، كما وجدت استخبارات الجوار مكاناً استراتيجياً؛ أولاً لإحداث تغيرات في الثقافة التعزية المدنية لمصلحة ثقافتها ونظامها الاجتماعي، وثانياً لكي تتمكن من تجنيد المزيد من العملاء السريين لمصلحة جهازها الاستخباري الذي اعترف قائده آنذاك في مقابلة له مع قناة MBC بعد إقالته من قيادة المخابرات بأن جهازه كان يقود العمليات التخريبية ضد (ج. ي. د.ش). رابعاً: تحويل مدينة تعز إلى وكر خطير لجماعة الإخوان المسلمين العالمية، حيث توافد إليها العديد من فقهاء الجريمة الوهابيين للتدريس والتدريب، وذلك في تحالف يكاد يكون استراتيجياً مع العسقبليين الذين كانوا يسيطرون عسكرياً وأمنياً على منطقة تعز. ويحكى بأن تعز لم تكن منصة لإطلاق العمليات العسكرية والاستخباراتية ضد الجنوب بل كانت ممراً مهماً لنشاط المخابرات الفرنسية التي اشتركت في المؤامرة التي أفضت إلى اغتيال إبراهيم الحمدي سنة1977م. وبعد فشل انقلاب الناصريين وانتهاء العمليات العسكرية لحرب 1979م بدأ العسقبليون الإجهاز على آخر معاقل قوى (ج.ي.د.ش) في أجهزة القوة لسلطة صنعاء من خلال الاعتقالات الواسعة والطرد الإداري والجغرافي الناجم عن الصراع والعنف الأيديولوجيين في جامعة صنعاء والجهاز الإداري، وتكوّنَ تحالف محلي وإقليمي ودولي واسع وقوي مدعوم بالإشاعات والتعبئة والتحريض الأيديولوجي الذي أفضى إلى تفجير الوضع العسكري في عدن سنة 1986م؛ إذ استطاع هذا التحالف اختراق قيادة الحزب الاشتراكي وسلطة الدولة عبر علي ناصر محمد الذي جمع بيده سلطة الحزب وسلطة الحكم بعد استطاعته إقصاء عبدالفتاح إسماعيل وإجباره على العيش في موسكو. وكانت أحداث يناير 1986م كارثة فعلية على تعز الكبرى؛ من حيث الخسارة البشرية والخسارة في نسيج العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية، على الرغم من احتضان تعز لأغلبية النازحين في أحداث يناير 1986م، والذين فجروا المواجهات أو بمعنى أدق أضعفوا الحزب والسلطة وأنتجوا إشكاليات جديدة لم تكن ذات أولوية في الذهنية الجنوبية إن جاز لنا التعبير. ولأن تعز حاضنة ممتازة وولادة فقد رأى سكانها فيما يجري من أحداث سياسية على نطاقها المحلي ونطاقها الدولي إنصافاً لها وإخراجها من بؤرة (منصة الإطلاق) حيث فتح الباب على مصراعيه لتنفس الصعداء والانطلاق نحو تضميد الجراح التي اقتحمت الجسم السليم للعلاقات الاجتماعية.. تعز الكبرى احتضنت حماسة سياسيي صنعاءوعدن وحماسة بعض الكتاب والصحفيين على طريق الترويج لإبرام اتفاق الاتحاد بين سلطتي عدنوصنعاء، ولم تكتف بذلك الاحتضان بل حرست الطريق الإسفلتي لمرور مواكب المتسطلين، تشيعهم أياد غفيرة مصفقة. يتبع..