ليس أشقى على ظهر المعمورة من مجتمع يمتلك قدراً كبيراً من أسباب ومقومات النهضة والبناء وهو يدركها جيداً ولا يحاول مجرّد التفكير في كيفية الاستفادة من هذه المقومات وتلك الإمكانات.. والأفظع من ذلك أن يصرّ بكامل إرادته- المتقاعسة عن التغيير- على أن يظل في تخبطه الدائم ومشكلاته المتراكمة التي غدت بعقدها وتقادمها وإضافاتها المستمرة عوائق تحول دون معرفة الذات السليمة كيف كانت ؟ وأين غدت ؟ في ظل هذه المكومات من التعقيدات المتداخلة التي تشكل في مجملها الحائط الرابع الذي يحول دون رؤية المستقبل ! فضلاً عن السير إليه والعثور على موضع قدم فيه لما تسمى بالأجيال. وبما أن الغد هو القادم وهو القدر المحتوم فإن كل إعاقة زائلة لا محالة ، وهذا ليس مُبرراً للجمود والتراجع المستمر أو انتظار قدوم الغد دون شد الرحال إليه بمؤونته وزاده واحتياجاته المُلحة. وليس الإشكال في ما هو قائم من فساد عام وترهل مُكتسب أو موروث أو مدفوع بل إشكالنا الجوهري أن يجد هذا الواقع بدائل وآليات تكرسه بأسلوب أو بآخر للغد المجهول ، فالشعارات ضرها أكثر من نفعها مهما كانت النسب الإيجابية الآنية فيها لأنها لا تنتمي إلى منظومة بناء متكاملة تستمد قوتها التغييرية من الأسس الموضوعية والعلمية والتاريخية التي تستوعب المتغيرات والتنوع والتعدد الفكري والبشري في إطار من الخصوصية العامة والهوية التاريخية. إن المعالجات الجزئية والمحددة لا تلبث أن يظهر عوارها وقصورها في الواقع الملموس ولا يمكن الاعتماد عليها مستقبلاً كبنية لضرورات الغد لفقدها عامل الديمومة والملاءمة.. ولأنها بمعنى آخر لم تكن وليدة استراتيجية عامة تترجمها التوجهات وتتسق أبسط خطواتها الأولية بنتائجها الممكنة اتساقاً يعكس المنهجية العلمية في الإعداد والتنفيذ والتكامل في المسار بعيداً عن الجمع بين المتناقضات والازدواجيات والمشاجب المفتوحة وردود الأفعال والحسابات الضيقة. وما دون ذلك في اعتقادي ليس له من معنى سوى تكريس التقليد والتنكر لمقتضيات التاريخ وضرورات الحاضر وأسباب المستقبل ومحدداته العصرية التي لا يؤمن بها سوى العقل البشري غير المتحيِّز والقادر على اجتياز الذات الاستهلاكية المضطربة إلى الذات المستقرة القابلة للتطور والقادرة على تحديد ماهيتها ؟ وماذا تُريد ؟ ومن أين تبدأ ؟ فالذات المجتمعية لنا بنخبها القيادية في شتى الميادين أكثر ما تكون بحاجة إلى توافر القابلية والاستعداد الذهني والنفسي للتغيير ، كمرحلة صحية لها أن تعقب مرحلة من الصراخ الأجوف والتذمُّر السلبي والكلام الكثير. والتي تعني في مُجملها انتقال الذات من سبات الوعي إلى وعي السبات وبدون ذلك ستظل القرارات والدعوات في إطار من الشكلية والملهاة والهذيان في الوقت الذي تتفاقم فيه الظواهر السلبية البسيطة إلى أن تصبح مشكلات مُركبة تُهدد المجتمع في بناه المستقبلية. وإذا كان الإنسان قزماً بالنسبة لما حوله في الطبيعة فإنه لم يتجاوز قزميته ، إلا بإعماله العقل الذي ظهر به عملاقاً قوياً في توظيف كل ما حوله لخدمته ورفاهيته ، ونحن كمجتمع من عمق مشكلاتنا هي هجرة العقل وإقصاؤه عن مُجريات حياتنا بشتى جوانبها. إن الأوضاع غير المستقرة في أكثر من جانب والدافعة بالكوادر وذوي الاختصاصات النوعية في المجالات الحيوية إلى المغادرة والبحث عن أوضاع معيشية أفضل ولو في غير مجالاتهم وبهذا يفقد الوطن أثمن ما يملكه من طاقة لا تنهض المجتمعات والأوطان إلاَّ بها وبريادتها الخلاقة. فهل تدرك النخب القيادية في شتى الميادين ومراكز القرار مغزى الغد ؟ وأهمية التغيير ؟ في ظل المتغيرات المتلاحقة التي يشهدها العالم وفي أي اتجاه كانت. نحن بحاجة للمواكبة كما نحن بحاجة إلى “ذات” الغد المتميزة بخصائص الهوية الشخصية والإنتاج في وجه العولمة بإفرازاتها المذيبة للكيانات المضطربة المهزوزة الرؤية والتصورات المنسية في أجندة التاريخ ليس لها من حراك يذكر سوى الدوران التقليدي حول الذات الهامشية والهشة في آن واحد..